التغيير وفق السنن الإلهية

في سياق الثورات

بسبب الثورات الشعبية التي تشهدها بعض البلدان العربية والأفريقية يتداول الناس هذه الأيام كلمة “التغيير” للتعبير عن هذه التحولات الكبيرة والممتدة، وهي تحولات لا تقتصر على الجوانب السياسية، وإنما تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وربما يفوت على كثير من الناس أن ما يقع من تحولات وحوادث في هذا الكون لا يكون خبط عشواء، ولا يقع بمحض الصدفة، وإنما يقع بمشيئة الله تعالى وفق قوانين عامة لا يخرج عن أحكامها كائن من كان، فكما الظواهر الكونية خاضعة لقوانين إلهية، فكذلك الظواهر المتعلقة بسلوك البشر وتصرفاتهم في هذه الدنيا تخضع لقوانين إلهية ثابتة ، علمها من علمها وجهلها من جهلها ، ولا يستطيع الإنسان أن يتفادى خضوعه لهذه القوانين إذا توفرت شروطها، ولذا حثتنا آيات القرءان الكريم والتوجيهات النبوية الشريفة إلى طلب المعرفة بالقوانين التي تحكم الحياة البشرية مستعينين بطرق متعددة منها: النظر في النفس، ومشاهدة الكون، و التدبر في العواقب، والتأمل في الأحوال، واستقراء الوقائع، واستنطاق التاريخ وقصص السابقين.

ويسمي القرءان الكريم هذه القوانين التي يخضع لها الناس بالسنن الإلهية، وهي تبين قدرة الله تعالى وطريقته المتبعة في معاملة خلقه – مؤمنهم وكافرهم أو صالحهم وطالحهم- وما يترتب على ذلك من نتائج في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وهذه السنن الإلهية والتي تمثل القوانين الثابتة التي يجري عليها القدر الإلهي في سياسة الخلق تتسم بالثبات والإطراد والعموم، قال جل شأنه “سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً” سورة الأحزاب (62). وقوله سبحانه “سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً” سورة الفتح (23). وقوله سبحانه “فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً” سورة فاطر(43). وقوله تعالى”سنة الله التي قد خلت في عباده” سورة غافر(85).وقد أخبر القرءان الكريم عن هذه السنن الإلهية أحياناً بتقرير نتائجها ، أو من خلال بيان شروطها أو تفسير أسبابها كقوله تعالى “وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا” سورة الكهف (59)، وقوله جل شأنه “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” سورة الرعد (11). وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم أن ما يصيب الأفراد والجماعات والأمم من أحوال ، وما يقع في ديارهم من حوادث هو نتيجة حتمية لأعمالهم وتصرفاتهم ، ومن هنا نعلم أنَّ تبديل الحال من أحسن إلى أسوأ إنما يكون بسبب التقصير في مراعاة السنن الإلهية واتباع ما يناقضها ، وكذلك يكون تغيير الحال من أسوأ إلى أحسن باتباع ما تقضي به سنن الله تعالى ومراعاتها، وعليه من يريد تحقيق سنن الله تعالى في الاتجاه الأحسن للعيش في حياة إنسانية كريمة يتوجب عليه تهيئة لوازمها ، وتحقيق شروطها. ومن دون تهيئة المقتضيات، وتوفر الشروط الضرورية لا يمكن للإنسان أن يحدث تغييراً في حياته إلى الأحسن ، والحال هنا أشبه بمن يريد إنبات الزرع ولا يسقيه بالماء، أتراه يحصد ثمراً أم هو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.وفي هذا السياق يقول علماؤنا أن كل سبب موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع، من جل أن ينتج هذا السبب مسببه، للإمام الشاطبي في الموافقات قول مفيد بهذا المعني: (وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي، ولا استكملت شرائطها ،ولم تنتف موانعها ، فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره).

سنة الله تعالى في الظالمين وعقابهم

وردت كثير من الآيات القرءانية والأحاديث النبوية التي تبين سنة الله في الظالمين، الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون غيرهم ؛ سواء كانوا حكاماً أو محكومين، وأنه سبحانه وتعالى يعاقب على الظلم في الدنيا والآخرة ، ويكون عقاب الظلمة أمراً حتمياً ، وتزول الأنظمة والدول بالظلم ضربة لازب قال تعالى: “هل يهلك إلا القوم الظالمون” سورة الأنعام (47)، وقال تعالى: “وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا” سورة الكهف(59)، وقوله تعالى “وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين” سورة الأنبياء (11)، وقوله جل شأنه “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا” سورة النمل (52)، وقوله تعالى “وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون” سورة القصص (59). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: “وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد” » (رواه البخاري ومسلم).

وذكر القرءان الكريم صوراً من عاقبة الظلم على الدول والأمم والأقوام فقال تعالى عن فرعون: “فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين” سورة القصص (40)، وقال عن قوم لوط “فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد” سورة هود (83). وأهلك سبحانه قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة، قال تعالى “فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون” سورة العنكبوت (40). وخلاصة القول في سنة الله تعالى في الظالمين نوجزها فيما يلي:

  1. أن الله تعالى يعاقب الظالم بظلمه في الدنيا والآخرة، ويعجل له العقاب في الدنيا إن كان ظالماً لغيره، فقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم:« ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم » (أخرجه أبو داود).
  2. من صور عقاب الظالم في الدنيا أن يسلط عليه من هو أظلم منه، فإذا كان أهل بلد يتظالمون فيما بينهم يولى عليهم حاكماً ظالماً أو الحاكم الظالم يسلط الله عليه حاكماً أظلم منه او دولة ظالمة تذيقه العذاب ومرارة الظلم، وشاهد ذلك قوله تعالى “وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون” سورة الأنعام (129).
  3. يهلك الله الأمم ويزيل الدول بسبب ظلمها لقوله تعالى (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشانا بعدها قوماً آخرين” سورة الأنبياء (11)، وأن هلاكها وزوالها أمر أمر مؤكد ومحدود بأجل وفقاً لسنته تعالى ، وإن جهل وقت الهلاك الحتمي (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” سورة الأعراف (34).
  4. زوال الحكم الظالم وإن كان في أيدي مسلمين، وبقاء الحكم العادل وإن كان في أيدي كافرين، قال تعالى (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) سورة هود (117)، وهذا يعني أن نظام الحكم في بلد غير مسلم يكون عادلاً فيبقى، حيث لا يظلم الحكام الرعية ويرعوا حقوقهم، بينما نظام الحكم في الدولة المسلمة يكون ظالماً فيزول بسبب ظلم الحكام لشعوبه والتعدي على حقوقهم، وبهذا قال الإمام الرازي في تفسيره : إن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح وعدم الفساد)، ولشيخ الإسلام ابن تيمية مقولة جميلة في ذات المعنى: ( إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة).
  5. من آثار الظلم وتداعياته خراب البلدان من نواحي عديدة: اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية وعمرانية وإنسانية، ففي ظل الظلم والظالمين ينتشر الفساد بكل أنواعه ، ويهلك الحرث والنسل ،وتضعف الدولة داخلياً مما يغري أعداءها بالعدوان عليها ثقافياً وعسكرياً وسياسياً ، وقد قص علينا القرءان الكريم قصص الظلمة في الأمم السابقة لأخذ العبرة وتعلم الدرس، وها نحن نشاهد في عصرنا الحاصر مآل بعض البلدان الإسلامية في ظل الأنظمة المتجبرة الظالمة، حيث انتشر الفساد وضعفت البلاد في مجالات عديدة حتى صارت تستجدي قوتها وهي الغنية بمواردها البشرية والمادية، وطمع الأعداء في ثرواتها ، وتمادوا في انتهاك حرماتها واغتصاب مقدساتها. روي عن ابن عباس أنه قال: أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وقرأ قوله تعالى “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون” سورة النمل (52).

نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ ابراهيم ناجي
    ابراهيم ناجي

    دراسة موفقة ورائعة لفتت انتباهنا للسنن الالهية في التغيير. يا ليت الحكام الظلمة يعتبرون بمصير الفراعنة الهالكين.

اترك رد