متى ستتحرر اللغة العربية من عنق الزجاجة؟ … سكينة عبد اللوي علوي

سكينة عبد اللوي علوي: باحثة في سلك الدكتوراه بجامعة ابن طفيل القنيطرة – المغرب

اللغة ليست فقط أصواتا تفيد غرضا ما، وتهدف إلى إيصال رسالة بين مخاطب بكسر الطاء ومخاطب بفتح الطاء، ولكن أيضا هي انتماء وهوية وتمسك بجذور تاريخية عريقة، وهي روح أمة ووعاء ثقافتها ورمز وجودها ومصدر إشعاعها إذا تعهدها أهلها بالحفاظ عليها وبصونها وبالنهوض بها، وقاموا بواجبهم نحوها فالنتيجة ستكون لغة حية نابضة بالحياة، ومزدهرة بازدهار الحضارة التي تنتمي إليها، لما تمتلكه من مقومات النمو وشروط التطور وموجبات إثبات الحضور النافذ والمشع، والنهوض باللغة من نهضة الأمة الناطقة بها، وقابلية اللغة للتطور ولمواكبة التقدم الذي تعرفه الإنسانية في جميع الحقول والمعارف والفنون و الآداب من خصائصها التي تنطوي عليها و لكي يتحقق هذا لا بد من أن تحب هذه اللغة وهذا شرط أساس لا محيد عنه، إذ عندما تحب اللغة فلا نقاش في أن محبها سيولي كل العناية بها وبما يروج عنها في مختلف بقاع الأرض من أخبار ومستجدات، اليوم لا ينفك دارس أو باحث من مختلف الأماكن حول العالم يتحدث عن العربية بوصفها لغة فيها من الجمال والرونق و الجرس اللغوي الشيء الكثير، وأكبر دليل على ذلك النشاط البالغ الذي عرفه مجال تعلم اللغة العربية، إذ شهد هذا الحقل وتحديدا قسم تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها إقبالا كبيرا في الآونة الأخيرة لعدة أسباب، ومن المختصين من يقرنها بالجانب السياسي وعلاقة الدول القوية بالدول الناطقة بالعربية و بالتوتر السياسي الذي كان وما يزال يعيشه الوضع العربي من علاقة المد والجزر بينه وبين الآخر غير الناطق بالعربية… فارتبط تعلم العربية بما هو سياسي سواء أتعلق الأمر بالجانب العسكري أو الدبلوماسي لما له من دور فعال في التواصل بين مختلف الشعوب عبر العالم، ومنهم من أدرج هذا الاهتمام ضمن خانة ما هو اقتصادي محض، فالعلاقات الدولية الآن تسير على نهج محاولة احتكار الموارد الطاقية، ولا يخفى على أحد أن بعض البلدان الناطقة بالعربية تحوي ذخيرة طاقية لا يستهان بها، على سبيل المثال السعودية وبلدان الخليج والإمارات وغيرها، لكن البعض الآخر لم ينح هذا المنحى من الحديث إذ نسب هذا الاهتمام البالغ بتعلم العربية بأغراض خاصة، تختلف من شخص لآخر، إذ هناك من يتعلم العربية فقط من أجل التعرف على الثقافة والخصوصية اللغوية لهذه اللغة الحية التي أصبحت تحتل المراتب الأربعة الأولى بالتراتب مع اللغة الإنجليزية والإسبانية والصينية، منهم من يتعلمها لأغراض دينية، إذ اللغة العربية تعتبر مدخلا رئيسا لاعتناق الديانة الإسلامية، وأركان الإسلام لا تكتمل إلا بتعلم هذه اللغة…تختلف الأسباب ويظل الهدف واحد، التمكن من معرفة وإتقان العربية بشكل جيد يفي بالغرض المنشود من وراء تعلم العربية، وسنأتي على ذكر بعض أغراض تعلم اللغة العربية بالتفصيل في الفصول القادمة من البحث
وتظل اللغة العربية كما سلف وأشرنا إلى أنها اللغة الرابعة في الترتيب العالمي، وليس غريبا أن تحتل هذه المرتبة، خصوصا ما لها من جمالية وجرس موسيقي رنان، ولن ننكر شساعتها واتساعها فيما يتعلق بالمفردات والكلمات، فنجد مجموعة من التسميات لشيء واحد، وهذا ما اتفقت عليه العرب، وهنا القصة المعروفة لأبي العلاء المعري حيث دخل يوما على الشريف المرتضى، فعثر برجل فقال الرجل: مَن هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً” وغير هذا كثير في العربية، ونذكر للاستزادة لا أكثر، أسماء الأسد التي حصرها اللغويون في ثلاث مئة اسم من بينها: أَبُو لِبْدَة .أَخْنَس أَشْجَع أَضْبَط أَلْيَس بَبِر بَيْهَس جَسَّاس حَطَّام حَيْدَر خَبُور خُنَافِس دَوْكَس دِرْوَاس رَاهِب رَهِيْص سَارِي سَبَنْتَى سِيْد شَدْقَم صَارِم….وهذا إن دل على شيء إنما يدل على جمالية هذه اللغة وذكائها.
وما هذا إلا نقطة من بحر في أسرار وجمالية العربية،وليس أهلها فقط من يعشقون العربية، أو ممن عشقوها، بل هناك كثر ممن تعرفوا على العربية إما بمحض الصدفة أو بإصرار، ونذكر على سبيل المثال ما دونه الأستاذ أنور الجندي في موسوعته المسماة : بـ ” موسوعة مقدمات العلوم والمناهج “مجموعة من آراء كتاب الغرب عن اللغة العربية الفصحى ونورد منها ما يلي :
1ـــ عبد الكريم جرمانوس Abdelkareem Germanus: ” إن في الإسلام سندا ً هاما ً للغة العربية أبقى علي روعتها وخلودها ، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة ؛ كاللاتينية حيث انزوت تماما ً بين جدران المعابد . وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب التي اعتنقته حديثا ً فاقتبست آلافا ً من الكلمات العربية ازدانت بها لغتها الأصلية فازدادت قوة ونماء ً . والعنصر الثاني : هو مرونتها التي لا تبارى ؛ فالألماني المعاصر مثلا ً لا يستطيع أن يفهم كلمة واحدة من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة ، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام.
2ــــــ لويس ماسينونLewis Masynvn: ” استطاعت العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر ، سواء كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات أو خيالات النفس وأسرارها . إن التعبير العلمي الذي كان مستعملا ً في القرون الوسطي لم يتناوله التقدم ولكنه وقف أمام تقدم قوي المادية فلم يتطور. أما الألفاظ المعبرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية فإنها لم تحتفظ بقيمتها فحسب بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وتنشطه.
3ـــــــ يوهان فك الألماني German Orientalist Johann Fic: إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيا ً لهذه الحقيقة الثابتة ، وهى أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزا لغويا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية. ولقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطيء الدلائل فستحفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية .
4ــــــ المستشرق إربرىOrientalist Arbera : إن اللغة العربية لغة حية ، وحضارة العرب هي حضارة مستمرة فهي حضارة الأمس واليوم والغد ،وعن طريق العرب عرفت أوربا الحضارة ، فقد كانت أوربا تغط في سباتها العميق حين كان العرب يصنعون الحضارة , وكانت جامعاتهم تخرّج كثيرا من العلماء في حقل الأدب والعلوم والفنون والطب والهندسة
5ــــــ وليم مرسيه William mrsy: أما في العربية فالعبارة من المتانة ما لا يبقى منه شيء يحجب مصدرها عن النطق بها. فالعبارة العربية كالمزهر – العود – إذا نقرت على أحد أوتاره رنّت لديك جميع الأوتار وخفقت . وهى تبعث في نفسك – زيادة عما لها من صدى خاص – جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلحق بها ، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء الحدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور .
أما بالنسبة للعرب فقد اعتنى بعض الباحثين واللغويين بمسألة اللغة والاهتمام بها أشد العناية ومن بينهم نورد رأي الدكتور رمضان عبد التواب الذي اعتبر بأن اللغة كائن؛ لأنها تحيى على ألسنة المتكلمين بها، وهم من الأحياء؛ وهي لذلك تتطور وتتغير بفعل الزمن، كما يتطور الكائن الحي ويتغير، واللغة العربية الجاهلية ليست بِدْعًا من اللغات، فهي حلقة في سلسلة حلقات طويلة من التطور والتغير؛ أي: إنها لم تكن كما يتخيل بعض الناس، بصورتها التي رُوِيَت لنا، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها . ولهذا وغيره ناضل جملة من العلماء اللغويين والباحثين على الاهتمام باللغة العربية ومحاولة حمايتها من كل المخاطر المحدقة بها خصوصا ما رفته الدول العربية من استعمر من طرف الآخر وما حصل من استلاب لغوي إذ صارت اللغة المسيطرة في البلد هي تلك اللغة الغريبة الأجنبية، والأمر هنا طال مختلف المجالات الحيوية للبلاد كالصحة والتعليم والقضاء والاقتصاد وغيرها، فإذا أخذنا على سبيل المثال المغرب، وما عرفه من استعمار فرنسي، وما عاشته مؤسساته الاجتماعية وقطاعاته الحيوي، نرى أن التغلغل الاستعماري ما يزال قائما من خلال استعمال اللغة الفرنسية على حساب اللغة العربية، فمازال يناضل جملة من الغيورين على اللغة العربية على إعطاء الأولوية لهذه اللغة التي ما تنفك تحدق بها المخاطر والمضايقات، التي تجعل الضعف يتسرب إليها ليشل حركتها ويجعلها في عداد اللغات الضعيفة القابلة للموت والانقراض، وبضعف اللغة تضعف الأمة ويسري هذا الضعف إلى مفاصل المجتمع وإلى مرافق الحياة جميعا، فيكون التراجع الذي يؤدي إلى العجز الثقافي والحضاري وجمود الحياة، ولخير دليل على هذا المراكز المتدنية التي تتبوؤها جامعاتنا التعليمية ضمن قائمة أفضل الجامعات في العالم وجودة التعليم بالبلد، والتعليم هو الحجر الأساس لرقي أي مجتمع.
ليس المغرب وحده من يعاني الأمرين من هذا، ولا هذه الفترة التاريخية بالذات هي ما يبرز ضعف وهوان العربية، وليس العربية فقط، بل الأمر يتعلق بأي لغة تهاون أهلها في الحفاظ عليها، لكن هذا لا يعني أن لا حل أمام إنقاذها وإعادة الوهج إليها، فمثلا إذا عدنا قليلا إلى الوراء، سنجد أن العربية قد تراجعت وأصابها الضعف والهزال عبر أحقاب متطاولة إلى أن دبت فيها الحياة مع الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، حين نشطت حركة التأليف باللغة العربية بعد ركود طال قرونا، وتأسست المطابع وصدرت الجرائد والمجلات، ونشرت مؤلفات باللغة العربية في مختلف فروع الثقافة، وظهرت معاجم عربية وبدأت مع مطلع القرن العشرين تجربة نشر دوائر المعارف، وأنشئت الجامعات بعد إنشاء المدارس، ثم أعقب كل ذلك تأسيس المجامع اللغوية التي تعنى بتطوير اللغة العربية وتطويعها لتستجيب لمتطلبات النمو الذي تعرفه المجتمعات العربية، هذا فضلا عن اتساع رقعة الاهتمام باللغة العربية خارج ديارها وهذا فعندما اهتم أهلها بها – أي العربية – أزهرت وأثمرت وأغدقت على أهلها علما ومعرفة وانفتاحا، لكن كلما تهاون أهلها عن صونها وتطويرها إلا وكانت حجرا صلبا لا طائل منه، فكما هو معلوم فإن جمود اللغة وتخلفها، ونموها وازدهارها، كل أولئك يرجع أولاً وآخِرًا إلى وضع أهلها، وإلى نصيبهم من التعامل والتفاعل مع الحياة، وما يجري في العالم من أفكار وثقافات ومعارف جديدة ومتنامية، فإن كان لهم من ذلك كله حظ موفور، انعكس أثره على اللغة، وإن قلَّ هذا النصيب أو انعدم، بقيت اللغة على حالها دون حراك أو تقدم، اللغة لا تحيا ولا تموت بنفسها، وإنما يلحقها هذا الوجه أو ذاك بحسب الظروف والمُلابسات التي تحيط بها، فإن كانت الظروف فاعلة غنية بالنشاط العلمي والثقافي والفكري، كان للغة استجابتها الفورية، ورد فعلها القوي، تعبيرًا عن هذه الظروف، وأمارة على ما يموج به المجتمع من ألوان النشاط الإنساني، وإن حُرِمت اللغة من هذا التفاعل ظلت على حالها، وقدَّمت للجاهلين فرصة وَصْمِها بالتخلف والجمود، في حين أن قومها هم الجامدون المتخلفون” ، وهكذا بناء على ما سلف اتضح أن اللغة العربية عرفت من الإهمال الشيء الكثير،وهذا جلي انطلاقا من الأزمة اللغوية التي يعيشها العرب في هذه المرحلة من تاريخهم، فالمفروض أن يكون وضع اللغة العربية في المجتمعات العربية واضحا بينا ومسألة مفروغا منها، لا تبحث ولا تناقش، ولا تكون موضع تساؤل أو دراسة، ولكن الواقع الحالي ينطق بأن المجتمعات العربية على اختلاف تنوعاتها تشترك في التهميش للغة العربية وعدم الاهتمام بها باعتبارها عنوانا للهوية ووعاء للفكر وللثقافة، وأحيانا يصل الأمر إلى معاداتها والإساءة إليها والتطاول عليها والسعي الحثيث للإضرار بها
ثم إن من بين الأمور التي تعد عائقا أمام اللغة العربية وتحديا من تحدياتها مسألة الدارجات والعاميات خصوصا في مسألة التعليم، إذ أن جملة من المشجعين لهذا الطرح نادوا بترك العربية جانبا والاعتماد على العاميات المتداولة في الحياة اليومية، ونسبوا كل هذا لأسباب منطقية حسب قولهم ونذكر على سبيل المثال ما يعيشه المغرب اليوم من صراع بين ما هو عربي فصيح وبين ما هو عامي، فنجد البعض يتسابق لتدريس العربية والبعض الآخر ينحو منحى الدارجي والعامي،” وقد قويت شوكة هذه التيارات التي تتصادم مع اللغة العربية بدون أي مبرر في بعض دول المشرق العربي كما في لبنان على سبيل المثال، وفي بعض دول المغرب العربي كما في المغرب والجزائر حيث لا يكتفي النشطاء الذين يتحركون في مجالها، بالجمع بين اللغتين العربية و الأمازيغية، وهو مطلب سليم أقره الدستور المغربي والدستور الجزائري ولكنهم يدعون إلى إقصاء اللغة العربية وإلى محاربتها بشتى الأساليب ” لكن مسألة أن العامية أو الدارجة ما هي إلا فرع من فروع العربية الفصحى، له التأثير البليغ على هذه القضية، وتبقى مسألة تعليم العربية للناطقين بغيرها مسألة استأثرت باهتمام بالغ من طرف مختلف الجهات المختصة بهذا المجال، فالعربية كانت ومازالت تستقطب أعدادا غفيرة تتزايد سنة عن سنة من الطلاب الراغبين في تحصيل العربية والنهل من علومها، والعربية كغيرها من اللغات الحية تعبر عن ثقافة وروح أهلها فكما قال كل من الدكتور محمود كامل الناقة والدكتور أحمد طعيمة “لقد أخذت الأمم في وقتنا الحاضر تتنافس في تعليم لغاتها ونشر ثقافاتها باعتبار أن اللغة امتداد لكيانها ووده معبر عن ثقافتها وحضارتها ومكانتها في العالم، مسلمة بأن اللغة من أهم المعايير التي تقاس بها فاعلية الأمم في مضمار التقدم والحضارة والتأثير والتأثر، وقدر ما يكون لأصحاب هذه اللغة من مكانة عالية ودور عظيم في مضمار التقدم العلمي والحضاري بمختلف نواحيه” بناء على كل هذا يؤرقنا نحن الباحثون سؤال : متى ستخرج العربية من عنق الزجاجة لتنفتح على عوالم وفضاءات أرحب تليق بها وتضمن لها ثباتا ورسوخا في نفوس العرب وغيرهم بعيدا عن كل تلك النوايا المبيتة نحو اللغة العربية بوصفها وعاء للدين ومرتعا للتطرف ورمزا للتخلف والبداوة؟


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد