بقلم: بلقاسم مسعودي الإدريسي (*)
ذات مرة ، وأنا جالس في مكتب صديق لي وهو من المثقفّين والإعلامييّن الأكفاء والعارفين باللغة العربية وعلومها ، كنّا نناقش أمور السياسة ثم انتقلنا من خلال الحديث إلى ما يكتب في الصحف من مقالات ، وبما أن صديقي المحترم كان قد اطّلع على أحد المواضيع المترجمة التي نشرتٌها آنذاك فقد قال لي : ” هل تعلم أن الترجمة خيانة ، وأنكم أنتم أهل الترجمة تقومون بعمل خياني”. فأجبته حسب علمي المتواضع إن ما تعنيه بهذا الحكم هو ترجمة القرآن الكريم و الشعر، أما ما دون ذلك فلا وجود للخيانة. وقد نظرت في جوابي إلى ما قاله أبو عثمان الجاحظ في كتابه الحيوان بخصوص الترجمة الأدبية ، وبالأخص ترجمة الشعر عامة والشعر العربي بخاصة: ” الشّعر لا يٌستطاع أن يٌترجم ولا يجوز عليه النقل ، ومتى حٌوّل تقطع نظمه وبطّل وزنه وذهب حٌسنه وسقط موضّع التعجب فيه ، لا كالكلام المنثور ، والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر …. وقد نقلت كٌتب الهند وترجّمت الحكم اليونانية وحوّلت آداب الفرس فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئا ، ولو حٌوّلت حكمة العرب لبطّل ذلك المٌعجز الذي هو الوزن ” . ولكي أتمكن من الرد على صديقنا بكثير من التفصيل ، رأيت أنه من واجبي التطرق إلى تاريخ بروز الترجمة.
نشأة الترجمة عند العرب:
بدأت الترجمة عند العرب في عصر بني أمّية ، ولم تزدهر كثيرا، لأن الأموّيين كان لهم انشغالات كبيرة بالفتوحات وإرساء أركان الدولة ، ولهذا فان مجال الترجمة لم يتسع مداه. أما العصر الذي عرّفت فيه الترجمة ازدهارا كبيرا فهو عصر العباسيين ومن عوامل ذلك الازدهار:
* كثرة الجدل في عصر العباسيين بين المسلمين وأصحاب المعتقدات الأخرى أدت بهم إلى ترجمة الفلسفة اليونانية لاستعمالها حجة وإسنادا .
*إدراكهم أن الحضارة لا تقوم على إلا على العلم ومن بينه الترجمة .
* تشجيع الخلفاء والوزراء في عهد الرشيد والمأمون على الترجمة.
هذه الأخيرة ينقسم عهدها إلى فترتين؛ أولاهما تبدأ من قيام الدولة العباسية إلى عهد المأمون (132 هـ إلى 198 هـ)، وثانيتهما تبدأ من تولي المأمون الحكم حتى نهاية حكمه (198 هـ إلى 218 هـ ). وعلى الرغم من أن الكثير يعتقد بأن الخليفة المأمون هو مٌؤّسس( بيت الحكمة )، بيد أن ابن النّديم يقول غير ذلك إذ يذكٌر في كتابه الفهرست أن تلك المؤسسة جاءت قبل المأمون، ولقد أنشأ المأمون بيت الحكمة في بغداد ، وهو عبارة عن مٌجمع علمي ومرصد فكري ومكتبة عامة ، أقام فيها مجموعة من المترجّمين ، وكان المأمون يعطيهم أجورا كبيرة من بيت المال . ومما ميّز حركة الترجمة في ذلك العهد أن المأمون كان يعطيها اهتماما كبيرا ويغدق عليها أموالا كثيرة. وعلى أهمية بيت الحكمة، فقد تم تعيين ألمع المترجمين ( حنين بن إسحاق العبادي المولود سنة 194 هـ) وتعيينه رئيسا لبيت الحكمة ومشرفا على المترجمين. وقد تتلمذ حنين في الطّب على يوحنا بن ماسويه وفي اللّغة علي الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبوّيه. والى جانب ابن إسحاق لمعت أسماء في الترجمة وسعة الاطلاع ، منها : ثابت بن قرة الحراني ، قسطا بن لوقا ، يحي بن هارون ، الحجاج بن مطر وغيرهم .
لقد كان بيت الحكمة عبارة عن أكاديمية علمية ، وهي تشبه مكتبة الإسكندرية من حيث الأهداف والوسائل وطرائق العمل، وكانت تحتوي على أقسام نذكر منها : قسم النقل الذي يتفرع إلى أقسام بحسب اللغة، من أهمها اليونانية والفارسية والسريانية والهندية. يضاف إلى ما سبق أقسام التأليف والبحث الفلكي والمرصد. و يشرف على هذه الأقسام عالم أو عالمان، وهذا يتطابق مع القول بأنه قد ورد اسم شخصين أو أكثر باعتبارهما صاحب بيت الحكمة. ويٌرّجح بشكل كبير أن بيت الحكمة استمر في عمله طيلة عهد العباسيين وقد دمره ( هولاكو) عام 656 هـ ، عندما أحتّل بغداد.
ومما كٌتب عن أكثر الكتب التي تٌرجمت في ذلك العهد ، كان من دعا إلى ترجمتها الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية ، لكونّه قد فشل في الظفر بالخلافة ، فانصّب اهتمامه على العلم ، حتى أنه لٌقّّب بحكيم آل مروان ، حيث أحضر جماعة من فلاسفة اليونان ممن يقيمون بمصر ويجيدون اللّغة العربية ، فأمرهم بنقل الكتب من اللّسان اليوناني واللّسان القبطي إلى العربية ، فكانت أول عملية نقل في الإسلام من لغة إلى لغة. و في زمن الخلفاء الأمويين ، تواصل النقل إلى اللغة العربية ، ولكن بنسبة قليلة ، ومن أشهر المترجمين في العصر الأموّي يعقوب الرّهاوي الذي قام بترجمة الكثير من الكتب المتعلقة بالإلهيات اليونانية إلى العربية . وفي نفس السياق ، يعتقد المستشرق الايطالي نيللينو أنه ربما كان أوّل كتاب نٌقّل من اليونانية إلى العربية هو كتاب (أحكام النجوم، المنسوب إلى هرمس الحكيم).
الترجمة بين المبنى والمعنى:
ومن جانب آخر ، وبالرجوع إلى الرأي المعاصر ، نجد أن الدكتورة إنعام بيوض مديرة المعهد العربي للترجمة بالجزائر تؤكد اجتناب ترجمة الشعر والتوجه إلى ترجمة العلوم الأخرى، حيث تعتقد أن الشعر لا يٌترجم ، وبذلك يتأكد عدم أمانة ترجمة الشعر عبر العصور من نظرة الجاحظ إلى اعتقاد إنعام بيوض المعاصرة.
وعلى ضوء ما سبق، فإن ترجمة النص ممكنة لكن ترجمة روح النص ومعانيه الضمنية شيء صعب المنال وغير ممكن في الغالب، وهنا يتضح جليا أن الجاحظ يشترط في المترجّم أن يكون ذا قدرة على البيان والتعبير لا تقل عن علمه ومعرفته وأن يكون متقنا للغتين ، المنقول منها والمنقول إليها بقدر سواء ، ولكنه لا يستبعد أن يكون المترجم كذلك لأنه يعسر أن يجمع بين لغتين بسوّية واحدة ، ولأنه ليس في العلم بمعاني ما يترجم وألفاظه وتأويلاته مثل المؤّلف.
ومن أجل التعمق في الموضوع يجدر بنا الرجوع إلى التعريف بالترجمة وإبراز معانيها. فقد جاء في قاموس المحيط للفيروز أبادي أن :” الترجمان هو المفسّر ، وترجمه وترجم عنه، والفعل يدل على أصالة التاء “. وتلفظ الترجمان مثل عٌنفوان ، وترجمان مثل زعفران ، وترجمان مثل ريهٌقان . وجاء في لسان العرب لابن منظور :” يترجّم الكلام أي ينقله من لغة إلى لغة أخرى “. كما جاء في المعجم الوسيط الصادر بالقاهرة من طرف مجمع اللغة العربية :” ترجم الكلام أي بيّنه و وضّحه ، وترجم كلام غيره وعنه أي نقله من لغة إلى أخرى، وترجم لفلان : ذكر ترجمته ، والترجمان هو المترجّم وجمعه تراجم و تراجمة ، وترجمة فلان : سيرة حياته وجمعها تراجم “. وأفضل مثال على ورود كلمتا ترجمان وتراجم في الشعر العربي هو ما جاء في قول الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعه : إن الثمانين ، وبلٌغتها قد أحوجت سمعي إلى تٌرجمان ، وقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة يصف فيها جيش الروم في معركة الحدث :
تجمع فيه كل لسّن وأمة فما تفهم الحدّاث إلا التراجم ،
ونضيف إليهما قول الشاعر قديما وهو يقصد القلم :
أهيّفٌ مذبوح على صدر غيّره يٌترجم عن ذي منطق هو أبكم
تراه قصيرا كلما طال عٌمره ويضحي بليغا وهو لا يتكلم
ولكّون كلمة ترجم تحمل معنى واسعا ، وهو فسّر وأوضح وأبان ، فقد استخدمها ابن النديم في كتابه الفهرست عندما تطرق إلى كتاب كليلة ودمنة . ويتأكد جليا أن أصل كلمة “ترجمة ” ومثلها ” ترجمان ” و ” تراجم ” هي من أصل عربي بلا ريب ، وقد أكد ذلك الدكتور محمود عوض محمد في كتابه ” فن الترجمة ” (ص7 ).
كما تٌعرّف الدكتورة إنعام بيوض الترجمة على أنها فنّ رغم أنها علم ، فهي فن يرتكز على علم وهي عمل للتكرار. وتضيف أن الترجمة كلما تمكنت من الحفاظ على كل ما في النص اقتربت من الكمال ، فالمترجم الجيّد لا يضحي بشيء في النص ، ( مقتطف من حوار أجرته مع يومية المستقبل). ويؤيدها في ذلك رأي الدكتور جابر عصفور رئيس المركز القومي للترجمة في مصر، حيث يدعو إلى الترجمة العلمية.
وعن ضرورة الترجمة قال إرنست رينان :” إن الأثر غير المترجم يعتبر نصف منشور” . أي أننا لا نستطيع تصوّر أمة تعيش على تراثها فقط ، بل يجب التفتح على العالم وما يجري خارج الحدود ، ويشمل أيضا الاقتصاد والعلم . ويُذكر أن الكاتب المعروف ميخائيل نعيمة قد سٌئّل مرة عن الترجمة فقال : “فلنٌترجم ” ورددّها ثلاث مرات ، وهي دعوة صريحة إلى الترجمة . ومادامت الترجمة ضرورة لابد منها لنقل العلوم والآداب من لغة إلى أخرى أو أكثر، فإنه من الضروري أيضا أن نعرف كيف نٌترجّم ، حيث يذهب الكثير إلى أن أحسن ترجمة هي الترجمة الحرفية بينما يذهب البعض إلى التأكيد على الترجمة بتصرف ، في حين أن البعض الآخر يحث على أن تكون الترجمة أمينة للأصل ، أي أننا لا نٌظّهر عليها على أنها ترجمة بحيث يتخيل إلينا أننا نقرأ في النص الأصلي . ومن بين المترجمين والباحثين الذين يحٌثون على الترجمة الحرفية الدكتور سهيل إدريس حيث صرح في أحد الحوارات مع مجلة الحوادث اللبنانية : ” إن الترجمة الحرفية أصلح ما نقدمه للقارئ شرط عدم تشويه النص الأجنبي ” . ويضيف الدكتور سهيل في هذا المجال ” أننا إذا اعتمدنا الترجمة الحرفية فإننا سنخفّف من خيانة الترجمة بشكل كبير وبذلك نتجنب كثيرا من الخلل وإذا كان ثمة غموض أو التباس في النص المترجم ، فربما كان ذلك في أصل النص ، وليس في طريقة ترجمته ، وهذا لا يكون المترجم مسؤولا عنه بقدر ما كان مسؤولا عنه النص الأصلي ، والمهّم في هذه النقطة أننا نٌوسع آفاقنا الفكرية أيضا بنقل روح النص الأجنبي وبهذا نٌغني المضمون الفكري الذي نطلبه في كل نص أجنبي “. لعل كلام صديقي بخصوص أننا نقوم بعمل خياني عندما نقوم بالترجمة اعتمد فيه على ترجمة الشعر ، وبذلك قام بتعميم حٌكمه على الترجمة بصفة عامة ، وحجته في ذلك ما جاء به كبير المترجمين الغربيين وهو ” إدمون كاري ” حين قال في كتابه الترجمة في العصر الحديث الذي صدر في جنيف سنة 1956 وبالضبط في الصفحة رقم 91 ، (ليس هناك من شك في أن الترجمة الشعرية تطرح صعوبات هائلة وملازمة ،الشيء الذي يجعل القارئ يشعر دوما بأنها تختلس ما هو جوهري في الأثر الأصلي ، وفي الحقيقة تٌعتبر الصعوبة الأولى مشتركة بين كل ترجمة فنية ، تلك هي صعوبة نقل الشكل و الأسلوب و الشخصية الذاتية للأثر ……… لأن الشاعر لا يتكلم لغة كل الناس ” ولذلك كان على المترجّم أن يعيد ـ بطٌرقه الخاصة ـ عنصرا ذاتيا محضا …. أضف إلى ذلك أن اللمسات الأكثر مألوفية التي يستخدمها الشاعر ، لا تحوي نفس اللون من بلد إلى آخر “. انتهى .
وحيث أن كل قصيدة هي تطابق عجيب بين إيقاع وفكر ، لهذا فإن ترجمة القصيدة أمر عسير. ومما لا يدع للشك مجالا أن ترجمة الشعر أمر صعب وغير محبذ ، لأننا سوف نتسبب للقصيدة في فقدان الأسلوب والمعنى من خلال التصرف في روح النص، رغم أن ترجمة الشعر قد تقدمت الترجمات الأخرى لمدة قرون.
إن تصوّرنا للترجمة و رؤيتنا لها أنها بمثابة جسر للتواصل اقتضته وجود جماعات من الشعوب والأمم متعددة اللّغات ووسيلة اتصال بين الدول و المنظمات والأفراد بتنوعهم ، فهي وسيلة يسعى من خلالها كل شعب لمعرفة ما توصلت إليه الشعوب الأخرى من تطور وتقدم في كل الميادين وخاصة الميدان المعرفي ، فهي أكثر من ضرورة للتعايش والتبادل الثقافي والعلمي إن على مستوى الهيئات الرسمية ، أو على مستوى الأكاديميين والإعلاميين والمفكرين . فالترجمة عبر العصور، ولا نريد أن نتطرق إلى بروزها في العهد الأموّي وخاصة حقبة الخليفة المأمون وكذا العهد العباسي، لأننا وبكل صراحة لا نريد أن نبكي على الأطلال خاصة عندما نقارن ما تم ترجمته في العالم العربي من ذلك الوقت ، وحتى يومنا هذا بما ترجمه الغرب بصفة عامة ودولة من دوله بصفة خاصة ، وهنا يكفي أن نكرر ما جاء به تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة الذي صدر مع بداية الألفية ، والذي محتواه أن ما ترجمه العرب منذ الخليفة المأمون حتى اليوم يعادل ما تترجمه دولة كاسبانيا في عام واحد. إذن فالترجمة هي وسيلة لنقل المعارف من لغة إلى لغة ، وما تبتكره العقول وتٌسطره الأقلام من جوانب للمعرفة وألوان الأدب والفكر والفنّ. إن هذه المفاهيم التي أٌعطيّت للترجمة من طرف أهل الترجمة ، ما هي إلا تأكيد على هذا العمل الفكري الإبداعي و الخلاّق ، والذي تصحبه معاناة وإرهاق فكري. ومادمنا ننادي بالمعاصرة وفي نفس الوقت نتخوف من المساس بالهٌوّية الثقافية مخافة مسخها ، والتنصل منها بأي حال من الأحوال عند نقلنا للعلوم الأخرى، فيجب القول والتأكيد على أن المعاصرة من خلال اللجوء إلى الترجمة ليست إلغاء للموروث الثقافي ولا هي تقبل كل وافد وتلّبس كل مستحدث ، بل المعاصرة يجب أن تكون انتقاء ومواءمة وتمثلا وإبداعا بدون التخلي عن مقومات الهوّية التي هي جزء لا يتجزأ من الشخصية الوطنية. وبعد هذه الدراسة والتحليل، يظهر جليّا بأن ضرورة الترجمة عملية لا بد منها ، حيث يقول الأديب البرتغالي ساراماغو: (إن الأدب العالمي يٌبدعه المترجمون) ، ويقول المفكر هانسي غادامير : (إن الترجمة تٌمثل عٌبورا فكريا من لغة إلى أخرى) .
إذن ما هو مطلوب منّا كمترجمين، هو التحرّي والصدق في المحافظة على روح النّص الأصلي وعدم إهمال أي جانب لتفادي ما يسمى بجٌرم الخيّانة.
(*) عضو الجمعية الدولية للمترجمين العرب، ومؤّسس اتحاد المترجمين واللّغويين الجزائريين
اترك رد