الحقيقة أن إشكالية توحيد الفتوى في الجزائر وغيرها من الدول يُمكن معالجتها من ناحيتين على الأقل:
الناحية الأولى: وهي غاية في الأهمية؛ بداية يتعيّن على القائمين على أمر الفتوى من العلماء النحارير والفقهاء المُقتدرين وأهل الاختصاص الشرعي ضبط حدّ مصطلح (توحيد الفتوى أو الفتوى الموحدة)، وهذا يتطلب أيضا ضبط مدى توحيدها أو المجال المذهبي لتوحيدها؛ بمعنى توحيد أقوال المذهب الفقهي المفتى به في عموم دولة الجزائر وهو المذهب المالكي، مع الحرص الشّديد على تخليصه من الأقوال الشاذة التي لا يُفتى بها، والآراء المتروكة غير المعتمدة في المذهب، وهذا إن شاء الله تعالى يسيرٌ مقدورٌ عليه؛ خاصة مع وجود عديد الدراسات المؤصّلة والأبحاث المتخصصة التي جدّدت أبواب الفقه المالكي، وخلّصت مسائله ونصحتها من شّوّاذ الأقوال ومتروك الآراء.
في ذات السّياق؛ من المهم أيضا الإفادة من بقية آراء المذاهب الفقهية وأقوالها المعتبرة؛ لأن العبرة في الإفتاء قوّة الدليل ورجحانه حتى وإن كان العمل به خروج عن المذهب المالكي المفتى به؛ وهذا برأيي هو المنهج الصحيح الذي تنفتح فيه الفتوى الشرعية على بقية المذاهب الفقهية دون إقصاء عقلي وتأمّلي أو تهميش مزاجي وعصبي.
أعتقد أن المحافظة على المرجعية المذهبية المالكية لا يجب أن تكون عنوانا للجمود الفكري أو سببا لحجر الفكر، ومدعاة لعقله بعقال التقليد في مفهومه السلبي الذي ينسحب على العالم الفقيه والعامي المتفقه على حدٍّ سواء؛ فالتقليد مذهب العامي بالنسبة إلى من يُفتيه كما هو مقرّر في علم أصول الفقه الإسلامي، أما من له حظ وافر من النظر والاجتهاد والتمحيص وفقا للقواعد الأصولية المتعارف عليها عند الفقهاء والأصوليين؛ فلا جرم أنه معنيٌّ بتتبّع الدليل القويّ وإفادة المجتمع بفتاوى شرعية راجحة.
لكن .. علينا أن ننتبه إلى أن الفتوى أمرها خطير، ومن ثمّ فإنه يتعيّن لزاما في القائم بها أن يُحصّل آلات الإفتاء المشروطة في المفتي، ويستجمع شروط وخصال الإفتاء المرعية شرعا؛ حتى لا تبقى الفتوى مرتعا لكلّ رويبضة مُتطفّل، ومدعاة للخروج من مذهب إلى آخر قد يُوقع صاحبه في التلفيق المحظور شرعا: وهو الأخذ من الآراء الفقهية دون قيد أو ضابط على وجه التشهّي والتلهّي، والخروج برأي فقهيّ لم يقل به أحد من الفقهاء. إذًا إن مراجعة أهل العلم المقتدرين ضرورة وحتمية شرعية لا مناص منها.
الناحية الثانية: إن مشروع توحيد الفتوى في الجزائر وفي غيرها من الدول أيضا مرهونٌ نجاحه بوجود مرجعية مؤسساتية يلتقي فيها الفقهاء؛ تتلاقح من خلالها آراؤهم، وتتفاعل فهومهم، ويتبادلون وجهات النظر؛ ممّا يُسهم في استقرار الفتوى بعيدا عن شطحات الذّراري من المُتعالمين، وهفوات الصّغار من أشباه المفتين.
إن تحديد معالم المرجعية الدينية في شقّها المؤسّساتي التي ستضطلع بإصدار الفتوى والحرص على توحيدها، وإخبار الناس بالأحكام الشرعية فيما يعرض لهم من نوازل في شتى ميادين الحياة؛ يبقى إشكالا مطروحا كنت قد بحثت طرفا منه في دراسة موسومة بعنوان: “إشكالية المرجعية الدينية في الجزائر”. نشرتها على الإنترنت لمن يريد الإطلاع عليها.
هذا ويبقى نجاح المرجعية الدينية المؤسساتية رهن تجميع الكفاءات المؤهلة والإطارات المتخصصة من أبناء البلد الواحد في عديد المجالات العلمية والمعرفية، العارفين بحال الأمة والمُطلّعين على أعرافهم وعوائدهم؛ حتى تضمن موقعها في المرجعية وتؤدّي دروها الرسالي الشرعي على أكمل وجه وأحسنه.
في الأخير..من المهم تشجيع ظهور العلماء وبروزهم والتعريف بهم بدلا من انزوائهم بعيدا في محاريب المساجد وأفنية الزوايا، فأمتنا في حاجة إليهم أكثر من أي وقت مضى، والمرجعية الدينية المؤسّساتية تلعب هذا الدور بلا شك، كما يتحقق هذا المقصد من خلال وسائل الإعلام المختلفة كما أشرت إليه في مقال نشرته على شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات بعنوان: “تغييب العلماء وأهل الذكر العلمي” وهي مُتاحة للإطلاع.
هذا والله أدرى وأعلم.
آخره أنِ الحمد لله رب العالمين.
اترك رد