مقدّمة:
بريئة هي اللّغة العربية من ضجيج المثيقفين، الذين يتملّقون باسمها ويراءون في الدّفاع المستميت عنها بهتانا وزورا، وليس حبّا في رفع رايتها ولا أملا في رقيّها. وبريئون هم الفرانكفونيون والأنجلوفونيون(1)، الّذين على حسابهم يبرّر فشل المعرّبين في تقديم شيء جديد، ساهم بحقّ في الدّفع بلغة الضاد إلى مواكبة العصرنة، حتى تضاهي ما هي عليه اللّغات الحيّة كالإنجليزية والفرنسية من تقدّم، وإقبال في ماضينا القريب وحاضرنا.وحجّتنا فيما نقوله أنّ الكثير من المعربين اكتفوا باجترار ما قدّمه أسلافنا، وتلويك ألسنتهم به ليس إلاّ.ومردّ هذا للأسف الشديد إلى تلك الذّهنية المتحجّرة الّتي تخشى كلّ من لا يسايرها، أو يسبح في فلكها، وينادي بما يسّرها، ويسعدها ولو على حساب اللّغة العربية.فإلى متى سيستمرّ هذا الركوض اللّغوي، وهذا الوضع الّذي تشمئز منه النّفوس الطّاهرة؟ وما لي هؤلاء المثيقفين لم يستفيقوا بعد من غفوتهم لتداركي ما فاتهم ويتسامحوا ويصطلحوا مع لغتهم؟ الّتي تكاد تهلك من سوء فهمهم لولا حفظ اللّه عزّ وجلّ لها بقرآنه الكريم، الّذي تبرّأ من نفاق الأعراب وكفرهم، كما تتبرّأ اللّغة العربية في حاضرنا ممّن خذلوها بغبائهم، وقصر نظرهم في الآفاق.
-ضجيج المثيقفين
إنّ ضجيج المثيقفين في مجال الدّراسات اللّغوية له أشكال وأنواع مختلفة في ظاهرها، ولكنّها متّفقة في باطنها على خراب اللّغة العربية، وإطفاء نورها وبريقها، وإبقاءها في الحضيض الأسفل.فالمقتفي لأثر هذا الصّخب يجده قد تفشى كالجذام في الجسد، حيث إنّ تداعياته لم تترك مجالا لم تمسّه بسوء.فأيّ تجديد للنّحوي هذا الّذي يتغنى به الكثيرون؟ هل بلى النّحو العربي حتى يجدّد؟ إنّما هو لزام أخلاقي على من لهم باع في هذا المجال أن يحسنوا اختيار ألفاظهم ووضعها في مواضعها حتى لا تجانب مقاصدها، ودلالتها في السّياقات.ولهذا فالصواب من منظورنا هو تيسير تعليم النّحو لمن استعصت عليهم قواعده الخاصة، والمتميّزة لكونه يمثّل مبعث البلوى وسبب الشّكوى، للكثير من متعلّمي اللّغة العربية ومحبّيها، ممن زاولوا تكوينا باللّغات الأجنبية، ولغير النّاطقين بها من الأجانب.وهنا نتوقّف برهة لنقول بصريح العبارة أنّنا لسنا من دعاة اسقاط الخليل بن أحمد الفراهدي، ولا تلامذته لتحيا اللّغة العربية (2) .وإنّما نودّ أن يعاد قراءة أعمالهم، وفهمها بذهنية معاصرة تواكب الحداثة، لأنّ كلّ مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك أصالة في التّفكير، أو في السّلوك أمام الآخرين (3) .وقد نجح ثلّة من خيرة اللّغوين العرب المعاصرين في إدراك هذه الحقيقة، وترجمتها في أعمالهم العلمية، ووفّقوا في تجاوز تلك العقد والذّهنيات، الّتي أكل عليها الدّهر وشرب.
فقد يساء فهمنا لا محالة من طرف الكثيرين، الّذين نصّبوا ذواتهم زعماء لغة الضاد، وهذا بديهي لأنّ أسلوبنا وطريقة تفكيرنا، ليسا بالمعهودين عند من يصنّفوننا من دون شكّ ضمن المتمرّدين على العرف، والمتهوّرين نكاية وتشفّيا فينا.غافلين بذلك دعوتنا الصّريحة إلى عصرنة اللّغة العربية، القائمة على قراءة التراث اللّغوي والاجتهاد العلمي الرّصين والمحايث، الّذي نريد منه تجاوز تلك الإسقاطات اللّغوية الغربية على لغتنا بطرق سلبية جامدة، قد تسوء إليها أكثر مّما تخدمها.فنحن لسنا من فئة المتعصّبين للماضي، ولا بالمنكرين للحاضر، وإنّما ننحو الوسطيّة في طرحنا الّذي يأخد بطرفي الرّأيين السّالفين.فنحن بذكرنا لمشكلة النّحو في بداية مقالنا هذا، هو لما يكتسيه من أهمّية بالغة بالنّسبة للأنظمة اللّسانية العالمية، على تنوّعها واختلافها.فمعضلة العربية متشعّبة وشائكة، فهي لا تخّص النّحو وحده، وإنّما تعدّت ذلك لفوضى المصطلحات الحديثة، وما انجرّ عنها من خلط في مفاهيم المفردات اللّسانية.
فمّما يؤسف له من ضجيج، وبالخصوص في ما يعرف بظاهرة الاقتراض اللّغوي وجود ذلك الكم الهائل من المصطلحات المستحدثة، الّتي كثيرا ما تجانب المعنى الحقيقي الّذي وجدت من أجله، لأنّها في الأصل مقتبسة من دراسات وأنظمة لغوية غربية، قد تتميّز بخصوصيات غير تلك الموجودة في لغتنا العربية، وهذه الإشكالية ناتجة بالأساس عن تعدّد المفاهيم اللّغوية في عالم اللّسانيات، حتى إنّه أضحى الباحث لا يكاد يعرف ما يختار من مصطلح مناسب للدّلالة على وضع لغوي معيّن.ولذلك وجب على اللّسانيين المعاصرين الّذين لهم باع في الدّراسات اللّسانية، وضع ضوابط تمكّن من الانفتاح اللّغوي العقلاني على الدّراسات اللّسانية الأجنبية، دون أن يترتب عن ذلك اقتراض عشوائي للمصطلحات العلمية، وهذا خدمة لثراء اللّغة العربية المفرداتي.ولهذا فإنّه من المهم جدّا التفكير بتأنّ في آليات ناجعة، تجعل من المصطلحات اللّسانية المتداولة في الوطن العربي مألوفة في دول مشرقه ومغربه، وهذا بغض النّظر عن المصادر الّتي يأخد منها سواء كانت باللّغة الإنجليزية، أو بالفرنسية أو غيرهما من اللّغات الحيّة.وذلك سوى لوضع حدّ لفوضى المصطلحات وتأسيس ضوابط يحتكم إليها ذوي الاختصاص اللّغوي، من أكاديمين وباحثين.ولعلّ الغاية من كذا اجتهاد هو إضفاء الصبغة العلمية الموضوعية، المحايدة والنّزيهة على الدّراسات اللّغوية المقدّمة باللّغة العربية الميسّرة.
فنحن نبغي من وراء هذا الاجتهاد، التّنبيه إلى ما يحاط بلغتنا العربية من مخاطر محدقة، ترتّبت عن التّراكمات السّابقة والآنية، الّتي سببها غياب سياسات لغوية واضحة في بلداننا العربية.كما أنّ هدفنا هو بعث نوع جديد من الحركية اللّغوية تختلف عن غيرها، من حيث إنّها تتميّز بنوع من الجرأة الفكرية والعملية القائمة على تشخيص مواطن الضّعف، ومواطن القوّة في لغتنا العربية المعاصرة، وهذا قصد إحداث قفزة نوعية بعيدة عن ثرثرة المثيقفين، حتى لا تبقى مجهودات محبّي اللّغة العربية حبرا على ورق حبيسة الأدراج، لا فائدة ولا مستفيدة منها.لأنّ الّذي ينقص العنصر العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فالعربي لا يفكّر ليعمل بل ليقول كلاما مجرّدا (4) وهذا ما لا نريد دوامه.
ولعلّ منطق العمل والحركة في ميدان اللّسانيات العربية، يكمن في وضع مناهج تدريس وآليات توافقية مشتركة لا يكتنفها الغموض، ومفهومة من لدن أبناء الوطن العربي وغيرهم ممن هم خارج حدوده، تُحترم فيها الخصوصيات اللّغوية الّتي لا تمثّل بتاتا من وجهة نظرنا حواجز، ولا وموبقات تعطّل تطوّر اللّغة العربية كما يخيّلها لنا أولئك البعيدين كلّ البعد عن واقعنا اللّغوي المعاش، والمتربّصين بنا وبلغتنا الّذين يمرحون في كنف ضجيج أوهام الطّوبوية، والمثالية.إنّنا إذا ما أردنا بالفعل أن ننهض بعربيتنا الميسّرة، ونسهم في إضفاء نكهات غير معهودة لها حتى تبعث على الإقبال وليس الإدبار، هو أن نلتفت بكلّ طيبة وتواضع إلى ما سماه المثيقفين لغة السّواد الأعظم، الّتي هي ليست بلغة الضوضاء كما يصوّرونها لنا هؤلاء المشوّشين، بل هي واقعنا اللّغوي الشّرعي الّذي لابدّ أن نعترف به ونهذّبه شيئا فشيئا ما أمكننا ذلك، حتى لا يبعد عن الفصيحة المهملة أصلا خارج الصّالونات، وهذا إذا ما رغبنا حقّا في الحفاظ على ما تبقى لنا من اللّغة العربية السّهلة والميسّرة، الّتي وجب إعارتها أهمّية قصوة حتى تسري على لسان من ليسوا أهل الاختصاص اللّغوي كالعلماء، والأطباء والمهندسين، والتقنيين وغيرهم.
وسيشهد البحث اللّغوي الحديث والرّصين من دون شكّ، على أصالة طرحنا يوم يكتب له النّجاح، حتى وإن كانت الظروف اللّغوية الرّاهنة في بلداننا العربية تعيق بزوغه بشكل جلي، ولكنّه لا يخفى عن ذوي الأفكار النّيرة، إنّه ما من فكرة جديدة إلاّ وقوبلت باستهتار من المثيقفين، حتى يشرق صباحها ويسطع نورها، ليقلب الموازين رأسا على عقب، وتصبح تلك اللّغة العربية الميسّرة لسان حال السّواد الأعظم.وما حرصنا الشديد بالإشارة إلى معضلة تهريج المثيقفين، إلاّ لعلمنا بخطورة أثرهم على لغة الضاد، فلاهم قدّموا إفادة لنا ولاهم خلّوا سبيل من لهم القدرة بأفكارهم النورانية مساعدتنا، والأخد بيد لغتنا إلى برّ الأمان.وبالتالي فالغالبية منّا في عصرنا هذا بين المطرقة والسندان، سجناء أفكار لغوية ظلامية ألبسها لنا لغويون من بني جلدتنا، في حين غفلة منّا دون أن نتفطّن لذلك، إلاّ بعد مرور سنين من عمرنا، فطبثت بذلك عزائمنا وفرّقت صفوفنا، حتّى أصبحنا ولغتنا لقمة صائغة لأولئك الّذين يتربّصون بنا الدّوائر.فلا نحن أتقنّا اتقانا جيّدا للغتنا العربية، ولا نحن تمكّنا حقّ التّمكن من اللّغات الأجنبية، أذنابا في مجالات عدّة راضون بانهزاميتنا وفشلنا إلاّ القليل منا، فطوبى لمن نؤوا بأنفسهم عاجلا عن ضجيج المثيقفين، وثرثرتهم.
المراجع:
[1] – كثيرا ما يتمّ خلط مفهوم “الفرانكفونيون” مع معنى مصطلح “الفرانكفوليون” بحرف اللّام، فالأوّل يدّل على الأفراد من غير الفرنسيين المجيدين للحديث باللّغة الفرنسية خارج حدود دولة فرنسا، أمّا الثاني فيدلّ على من يحبّ اللّغة والثقافة الفرنسية ويسعى لنشرهما.ونفس التّفسير بالنّسبة للأنجلوفونيين المتكلّميين باللّغة الإنجليزية خارج حدود انجلتيرا والولايات المتّحدة.
[2] – ينظر شريف الشباشي، يسقط سيبويه …لتحيا اللّغة العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب،سنة2004 .
[3] -ينظر عبد الرحمن الحاج صالح،بحوث ودراسات في اللسانيات العربية المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الرغاية الجزائر 2007 .
[4] – ينظر مالك بن نبي،مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر المعاصر –بيروت لبنان- طبعة جديدة2002.
اترك رد