إيران والغرب.. إمكانات التوافق وفرص التسوية

تشهد العلاقات الإيرانية الغربية هذه الأيام انفراجا تاريخيا غير مسبوق، بدأ بتبادل الطرفين إشارات التصالح، ولم ينته باتصالات على أعلى المستويات كان أبرزها الاتصال الهاتفي بين الرئيسين حسن روحاني وباراك أوباما. هذه الأجواء الإيجابية بين طهران والعواصم الغربية تفرض السؤال عن حجم إمكانات التوافق المتوفرة والتي يمكنها أن تشكل أرضية مناسبة لحدوث تسوية شاملة بين إيران والغرب.

إمكانات التوافق

كان حدث اقتحام السفارة الأميركية في طهران سنة 1979 السبب المباشر في قطع العلاقات الإيرانية الأميركية، ما فتح الباب بعد ذلك لدخول علاقة إيران مع الدول الأوروبية في مسلسل من الاضطراب والتراجع. وقد أدى هذا الوضع إلى طغيان صورة القطيعة بين الطرفين ورسوخها في الأذهان. في حين أنّ العلاقة بين إيران والغرب لم تكن دائما بذلك المستوى من التناقض.

ومَن يُلقي نظرة على تاريخ العلاقات الإيرانية الأوروبية يَجد دائما محطات تَشارك وتعاون إيجابية، وتُمثِّل العلاقات الاقتصادية والثقافية مع بريطانيا وألمانيا وفرنسا نماذج دالة في هذا الاتجاه. ويُمكن ملاحظة ذلك بخاصة في حجم الاتفاقيات الصناعية وصفقات البترول والغاز والمعادن التي عقدها الطرفان، إضافة إلى انفتاح الفضاءات الأوروبية العلمية والثقافية على الثقافة الفارسية القديمة والمعاصرة.

وعلى الرغم من شدة الأزمات التي مرت بها العلاقات الإيرانية الأوروبية، هناك دائماً قُدرة لدى الجهتين على حفظ الحد الأدنى من الارتباط بينهما، وهو الحد الذي ضمن استمرار حفظ مصالحهما، ففي ظل العلاقات الدبلوماسية المتدهورة بين طهران ولندن على خلفية الهجوم على سفارة هذه الأخيرة في طهران سنة 2012، ارتفعت نسبة الصادرات البريطانية نحو إيران سنة 2013 حتى بلغت في مايو /أيار ما يقارب نسبة 118%.

ولم تَمنَع الخُصومة مع الغرب الكثير من القيادات السياسية والعسكرية والدينية الإيرانية أو أسرهم من الدراسة في أوروبا أو التطبيب والعيش هناك، فالرئيس حسن روحاني مثلا خريج جامعة غلاسكو البريطانية.

وبخصوص العلاقات الأميركية الإيرانية، فقد سبق للإيرانيين أن عقدوا تفاهمات سابقة مع الأميركيين، كان أبرزها صفقة “إيران كونترا” في ثمانينيات القرن الماضي، كما سبق لهما أن قاما بالتنسيق الأمني والعسكري بخصوص أفغانستان والعراق قبيل تعرض هذين البلدين للاحتلال الأميركي في بداية هذا القرن. وعلى المستوى الاقتصادي وفي ذروة التهديدات الأميركية ضد إيران سنة 2011 شهدت الصادرات الأميركية نحو إيران ارتفاعا بنسبة 125%.

وفي الإطار ذاته عرفت العلاقات الإيرانية الأميركية لحظات إيجابية على شتى المستويات الثقافية والاجتماعية والعلمية لم تستطع القطيعة السياسية التأثير عليها، ففي الولايات الأميركية تستقر أكبر جالية إيرانية في العالم بما يقارب مليون ونصف مليون نسمة، وتحتضن معظم الجامعات الأميركية أقساما ومراكز للدراسات الإيرانية. ويَعتبر البيت الأبيض خطاب تهنئة عيد النوروز الذي يوجهه الرئيس الأميركي إلى الشعب الإيراني تقليدا ثابتا في البروتوكولات الرئاسية. وفي السياق ذاته، تُقدم السلطات الأميركية تسهيلات كبيرة للمواطنين من ذوي الأصول الإيرانية وغيرهم للاحتفال بعيد النوروز في الفضاءات العامة.

وعلى المستوى العلمي يتخرج سنويا من الولايات المتحدة عدد كبير من الطلاب الإيرانيين، ويحتل العلماء الإيرانيون مراكز متقدمة داخل الجامعات الأميركية، ويكفي التذكير هنا بأن وزير خارجية إيران الحالي محمد جواد ظريف قد حصل على الدكتوراه من جامعة دنفر في ولاية كولورادو، واستطاع بناء شبكة علاقات اجتماعية ودبلوماسية واسعة داخل الولايات المتحدة التي قضى فيها سنوات طويلة بين الدراسة والتمثيل الدبلوماسي لبلاده.

وعلى مستوى السياسة الخارجية الرسمية، فقد كانت رئاسة هاشمي رفسنجاني (1989-1997) محكومة بالمنهجية الواقعية التي كادت تفتح لإيران طريقا مؤثرا في علاقتها مع الغرب، بينما حققت رئاسة محمد خاتمي (1997-2005) إنجازات نوعية في السياسة الخارجية الإيرانية تمثلت بالأساس في تقديم صورة إيجابية ومنفتحة للجمهورية الإسلامية في أوروبا وأميركا.

إن المعطيات السابقة تؤكد بوضوح عدم صحة النظرة الإعلامية الرائجة بخصوص العلاقات الإيرانية الغربية، فهي لم تكن في وضع قطيعة تامة، كما أنها لم تعرف حالة التناقض الحاد. وهذا لا ينفي وجود اختلافات سياسية وثقافية جوهرية بين الطرفين، كما لا ينفي حدوث خصومات وتجاذبات أخذت أحيانا أشكالا متشددة. هذا كله حدث على أساس قاعدة حفظ الحد الأدنى من الارتباط، وهو ما أعتبِرهُ إمكانيات مناسبة يمكنها أن تشكل مستقبلا أرضية للتوافق، وربما الدخول في تسوية ترجع إيران والغرب إلى دائرة العلاقات الطبيعية.

فرص التسوية

ألحقت السياسة الخارجية للرئيس السابق أحمدي نجاد (2005-2013) ضررا بالغا بعلاقات إيران مع المجتمع الدولي، ويُمثِّل إغلاق السفارتين البريطانية والكندية في طهران، إضافة إلى الفشل في تدبير الملف النووي وتوالي رزم العقوبات الغربية ضد الاقتصاد الإيراني، أحد أهم مؤشرات ذلك الضرر.

ففي ظل تراجع الصادرات النفطية والحصار المضروب على المعاملات المالية الإيرانية دوليا وصل مؤشر النمو الاقتصادي إلى مستوى سلبي سنة 2012 قدَّره صندوق النقد الدولي بـ – 1.9%. وبحسب التقديرات الرسمية الإيرانية بلغت نسبة التضخم 31.5% في بداية 2013، وبلغ معدل البطالة ما يقارب 12.2% في نفس الفترة.

أمام هذا الوضع الخطير، اضطر الرئيس الجديد حسن روحاني إلى مصارحة الرأي العام بحقيقة الارتباط المباشر بين تدهور الأوضاع الداخلية والعزلة التي تعيشها إيران دوليا بسبب السياسات الحكومية السابقة ورغبة القوى الغربية في تقويض إيران. فكان قوله “ينبغي لأجهزة الطرد المركزي أن تدور، لكن حياة الناس أيضا ينبغي أن تدور”، تعبيرا واضحا عن توجه واقعي في السياسة الخارجية الإيرانية يريد الجمع بين إنقاذ الأوضاع الاقتصادية والحفاظ على حق إيران في اكتساب التكنولوجيا النووية.

ويجد روحاني نفسه في سباق مع الزمن لاستدراك أخطاء نجاد في الملف النووي، ذلك أن رفع العقوبات الاقتصادية الغربية سيحتاج إلى بضع سنوات، لأجل ذلك أراد روحاني اختصار المسافة والاتجاه نحو تسوية مع الأميركيين تضمن لإيران دورا مؤثرا في الساحة الإقليمية، وفي هذا السياق يمكن فهم وصف روحاني لأميركا بـ “مُختار العالم” (زعيم العالم)، وبرأيه التفاهم يكون أسهل دائما مع المُختار.

ومن المؤكد أن توجه روحاني الجديد يحظى بموافقة المرشد علي خامنئي، الذي استعار منه روحاني عبارة “المرونة البطولية”، وهي جزء من عنوان كتاب ترجمه خامنئي من العربية إلى الفارسية سنة 1969 ويتناول حادثة المصالحة التاريخية التي عقدها الإمام الحسن بن علي حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. ويتم استدعاء هذا العنوان باستمرار عندما يروج في محيط خامنئي حديث عن إمكانية التصالح مع الغرب.

وتبدو دعوة حسن روحاني للحرس الثوري بالانخراط القوي في المشاريع الاقتصادية القومية أشبه برشوة يقدمها الرئيس لصقور الحرس من أجل ضمان ولائهم لسياسته الخارجية الجديدة، وهو ما حصل بالفعل بعد أن بارك قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري خطوة الاتصال الهاتفي بين روحاني وأوباما.

وقد سبق للحرس الثوري أن أصدر بيانا قبيل سفر روحاني إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعبروا فيه عن دعمهم لسياسة روحاني الخارجية واضعين تحت تصرفه كل إمكاناتهم الدبلوماسية، مشترطين طبعا أن تسير هذه الدبلوماسية وفق رغبات مرشد الثورة.

ويدل النقاش العام الداخلي في إيران على وجود حماس شعبي يؤيد اتجاه الحكومة الجديدة نحو تطبيع العلاقات مع الغرب، ما تؤكده أيضا تصريحات بعض رموز النخبة السياسية والثقافية، ومن أبرز هؤلاء الرئيسان الأسبقان هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي.

فالأول ما فتئ ينشر مقتطفات من مذكراته التي تروي أقوالا لمؤسس الثورة الخميني، منها مثلا موافقة هذا الأخير المبدئية على تطبيع العلاقة مع أميركا شرط مراعاة تقبل الشعب لهذا التحول، أو قول رفسنجاني نفسه أن الخصومة مع أميركا لن تكون أبدية.

من جهته، اعتبر خاتمي في مقاله المنشور يوم 23 سبتمبر/أيلول 2013 في صحيفة غارديان البريطانية تحت عنوان “على الغرب ألا يدير الظهر للدبلوماسية الإيرانية”، وأوضح فيه أن رئاسة روحاني فرصة استثنائية أمام إيران والغرب معا، وأن على الدبلوماسية الغربية أن تأخذ هذه الفرصة بجدية وألا تتجاهل التوجه الإيراني الجديد.

وفي ذات السياق، تأتي الرسالة التي حررتها مجموعة من الشخصيات الإصلاحية في الداخل، وطلبت فيها من الرئيس أوباما اغتنام الفرصة التاريخية والدفع بتطبيع العلاقة مع طهران.

وقد شاهدنا بالفعل في الأيام القليلة الماضية دفقا كبيرا من إشارات التقارب والتصالح الإيراني الغربي، بدأ بتهنئة وزير الخارجية محمد جواد ظريف اليهود بأعيادهم الدينية، ثم بكشف الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تبادله رسائل مع نظيره الإيراني حسن روحاني، إلى خطابه في الأمم المتحدة الذي أكد فيه على حق إيران في اكتساب التكنولوجيا النووية، ونفيه نيّة الولايات المتحدة في إسقاط نظام طهران.

ليبلغ مسار التقارب الإيراني الأميركي ذروته في اللقاء الذي جمع بين وزيري خارجية البلدين ظريف وكيري، ثم الاتصال الهاتفي بين روحاني وأوباما. وعلى المستوى الأوروبي التقى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع روحاني. بينما اجتمع وزير خارجيته محمد جواد ظريف مع كاترين أشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، ومع نظيره البريطاني وليام هيغ. ولا ننسى هنا حوارات الرئيس حسن روحاني مع وسائل الإعلام الأميركية ومقاله المنشور في واشنطن بوست يوم 19 سبتمبر/أيلول 2013 تحت عنوان “لماذا تسعى إيران إلى معاملة بناءة؟”.

من المحتمل جدا أن يساهم الانفتاح الدبلوماسي المتبادل بين إيران والغرب في خفض التوتر الذي حكم العلاقة بين الطرفين إلى أقل درجاته، ويُعطي لإيران المُتَنَفس الاقتصادي والسياسي المطلوب.

وبالمناسبة، فقد رافق التقارب بين الطرفين مؤشرات في هذا الإطار، منها تحسنٌ سعر العملة الإيرانية مقابل الدولار، واستلام إيران مفاعل بوشهر النووي من روسيا، والمُكافأة الرمزية الأميركية المتمثلة في إلغاء جزءٍ من العقوبات ضد إيران، وتتصل بالمواد والتجهيزات الموجهة للخدمات الإنسانية وبرامج المحافظة على البيئة.

ومن المؤكد أن الإيرانيين يَسعون إلى استثمار واقع موازين القوى القائمة حاليا في المنطقة لأجل الوصول إلى تسوية شاملة مع الغرب يكون فيها الملف السوري ومصالح إيران الإقليمية جزءاً أساسيا إلى جانب الملف النووي، وليس مستبعدا أن يسير التقارب القائم حاليا بين الطرفين نحو هذا الاتجاه، لاسيما أن كل طرف يعرف جيدا ما يريده الطرف المقابل، ويبقى هذا السيناريو مرتبطا بحجم وطبيعة التنازلات التي سيقدمها الإيرانيون على طاولة المفاوضات.

ومن المرجح أن يتعثر هذا المسار المتفائل في حال استعادة بعض المتشددين في إيران والغرب لزمام الأمر، فهؤلاء يَتَحركون الآن في الاتجاه المعاكس، ويرون في أي تقارب دبلوماسي خسارة لهم. وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه الإسرائيليون الذين رفضوا حتى الآن كل الخطوات الإيرانية واعتبروها مجرد خداع وربح للوقت.

الغائب الحاضر في هذا الحراك التقاربي بين إيران والغرب هو العرب، وحتى في الخطاب السياسي الإيراني الداخلي لا نلاحظ وجود اهتمام كاف بموضوع تطوير العلاقات الإيرانية مع المحيط العربي. وقد يرجع سبب هذا الأمر إلى اقتناع الإيرانيين بأن تفاهمهم مع الأميركيين كفيل بأن يفتح لهم أبواب الدول العربية. فَهل تعرف الدبلوماسية العربية في أي اتجاه ستسير الأمور؟

المصدر: الجزيرة


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد