الحجاج: من اللغة إلى الخطاب

قراءة في أعمال أبو بكر العزاوي *

ذ. فضيل ناصري**

مقـــــدمة:

نعتزم في هذه المـــداخلة قراءة أعمال الباحث أبو بكر العزاوي التي تتخــذ موضوعة الحجـــاج همها الرئـــيس في أفق أن تشكل مشروعا متكاملا واضح المعالم.

ولأجل ذلك انتهجنـــا خطة جعلنا بمقتضـــاها ورقتنا هــذه مدخـلا مهدنا فيه نظريا للموضوع، أردفنـاه بمطالب ثلاثة :

– اعتمـــدنا في أولها الحوار الذي أجرته مجلة فكر ونقد المغربية مع أبي بكر العزاوي، و المنبــــوز: من المنطـــق إلى الحجاج، وحاولنا ما وسعتنا المحاولة أن نبين العـــلاقة بين المنطق و اللغة الطبيعية.

– وقرأنـــا في المطلب الثاني كتاب اللغة والحجاج منــاقشين ما يطرحه من قضايا متصلة بالحجــاج داخل البنى الصغرى للغة كالجمل و العبارات و التراكيب القصيرة.

– و في المطلب الأخيـــر تناولنــا كتــاب الخطـاب و الحجـاج الذي يعـــد بنظرنا تطبيقـات موفقـة لنظـرية الحجـاج في اللغة على خطــابات تنـوعـت بيـن القــرآن والشعـر و المثــل و الخطـاب الإشهـاري البصـري، و انتهينا في الأخيـر إلى خاتمة سجـلنا فيها أهم النتائج و الخلاصات التي قادنا إليها التحليل.

مــــــدخل:

بداية وقبل أن نقـارب موضوعة الحجـاج في أعمـال العزاوي يحسـن بنا أن نعرج على مـاهيتـه لــــدى اللغـويين القـدامى، لأجـل أن نستبين جملة الفروقـات و العلاقات أو الوشــائج المنعقــدة بين معــانيه اللغــوية وبين المعنى الــذي يقترحه الباحث في أعماله.

يذهـب صـاحب اللسان إلـى أن << لجـَّ فحـجَّ معنـاه لجَّ فغلـب من لاجه بحججه، [و] يقال حــــاججته أحـاجُّــه حجـاجا و محـاجة حتى حججتـه أي غلبته بالحجج التي أدليت بها (…) والحجة : البرهان ، وقيل الحجة مـــا دوفع به الخصم، وقال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة ،و (…) رجل محجاج أي

جَدِلٌ و التحـاج التخـاصم (…) قال الأزهري إنمـــا سميت حجة لأنها تحج أي تقصد >> (1)

يظهر من التحـديد اللغـوي أعلاه أن الحجـاج يدور في فلك الغلبة أو المغـالبة على الأصح، التـي تنطلق من اللغة و تتغيا حصــول التــأثير و الإقناع، و يحاقل مـــن حيث اللغة كمـا من حيث الاصطـلاح، مع بعض الفـرق الـــذي يبدو أحيـانا ويلطف أخــرى، مفــردات أخــرى من قبيل؛ البرهان، و الجدل و الاستــدلال (2)، و التواصل و الحوار.

وهذه هي المعـــاني نفسهـــا التي وردت لدى صـــاحب التـــاج(3)، ولــدى الـــراغــب الأصفهــاني (4). وبالـــرغم من أن مفهــوم الحجاج المنبثق عن اللسانيات الحديثة عصي و متـــأب عن الضبـط بالنظـر إلـــى تعـــدد مظـاهـــره و استعمـالاته ومـرجعيـاته النظـرية، وخضــوعه في دلالته لمـا يميـز ألفاظ اللغة الطبيعية من رخـــاوة وليونة تداولية وتأويلات متجددة (5)، فإننا نومئ فـي هذا المقـام إلى أن النشــاط الحجـاجي ليـس وضعا نزاعيا (6) دائمــا و بالضرورة ومتصـــلا بالمرافعـات القـانونية ومــا شــابهها و انســـلك في سلكـها، مثلما قـر فـي أذهان الكثيرين،

وخــاصية مـلازمة وثـاويــة في جميــع التـــواصــــلات Conventionnelle وإنمــا هو نشـــاط وضعي

و بخـاصة اللغـوية منها، مثلـما سنـرى في المطـلـب الأول مـن هذا البحـث.

ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن الحجاج لا يــــدور على الألسن بالدرجة نفسـها التــي يــدور بها عليـها لفـظ التـواصل(7)، ويحــده بقـــوله: << إنـه فعـالية تـداوليـة جـدليـة ؛ فهـو تـداولي لان طـابعه الفكـري مقامي واجتمـاعي، وهو أيضا جدلي لأن هدفه إقناعي قائم بلـوغه على التـزام صـور استدلالية أوسع وأغـــنى من البنيات البرهانية الضيقة >> (8).

ويجمل بنا قبل أن ننتهي فيما يستقـبل من المطـالب إلى التحـديد الذي يقتـرحه الباحث أبو بكر العـزاوي أن نشــير إلى انـــه يشتغل على الحجاج الطبيعي، أما عبد الرحمن طه فيشتغل و يهتــم بالحجـــاج المنطـــقي المصورن.

وبعد فان العديد من الــدارسين يتفقون أن الإرهـــاصات الأولى للحجــاجيات كانت من توقيع بيـرلمان، و أولبريخت تيتيكا من خلال كتابهما الوافي : في الحجاج الذي صــدر سنة 1958 م، ثم بعـــده و فــي السنة نفسها كتاب استعمالات الحجة ل ستيفان تولمين .

و لما كان الجدل و الحجاج صفة جبلية في الإنسان مثلما ينزع إلى ذلك صاحب الايضاح (9)، فينقـــض مقولـــة << الجدل بدأ يونانيا >> المتحيزة و المتهافتة، فان مســـألة تداخل علم أصول الفقه (10) و علم البلاغة (11) اللذين يضطلع بهما و يمارسهما الإنسان مع الحجــاج وتغدو أمرا طـــبيعيا من هذا المنظـــور . حتى إن الفيلسوف الراحل محمد عزيز الحبابي لم يتنكب عن الصواب حين قال قولته الشهيرة : << ويسألونك باللسان عن الإنسان، قل الإنسان لسان >> .

ثم إننا لا نغلو في كلامنا غير الحق إذا شاطرنا أحدهم الرأي و قلنا أن عالمنا اليوم سوق كبيرة بضاعتها الدعاوى و الحجج بشتى ألوانها و أصنافها (12) .

ولأجل أن الحجاج يحوز هذا الوضع الاعتباري لدى القدامى و المحدثين نعتزم قراءة أعمـــال الباحث بما هي [ أي القراءة ] فن كسر الحوجز التي تفصل بيننا و بينها ما وسعتنا القراءة .

المطلب الأول: من المنطق إلى الحجاج

يؤكد أستاذنا أن العلاقة بين اللغة و المنطق شائكة و معقدة، و قد تنازعتها بالدرس و التحليل مباحث معرفية تنهض على أطر نظرية مختلفة و متنوعة؛ كالنحو، و الرياضيات، و الفلسفة … الخ (13)، و هناك مقاربــات ثلاث ممكنة لدراسة هذه العلاقة هي كالتلي:

1 – مقاربة تروم و تتغيا إعادة تركيب و تكوين الوقائع اللغوية انطلاقا من نسق منطقي محدد بما يؤدي فــي المحصلة الأخيرة إلى اختزال اللغة الطبيعية إلى نموذج منطقي متصور و مبني سلفا. وهي مقاربة عارضها كـــل من أزوالــد ديكرو و جان بليز غريز إذ تمثل بنظرهما الخطـــر الرئيس من التقــريب بيــن اللســانيات و المنطق، فضلا عن أنها نزعة تنهض على فوبيا المنطق أي << إن كل شيء له تنظيم منطقي >> .

أما البـــاحث أبو بكر العــزاوي، فيـــذهب إلى أن ما يثلب هذا الموقف/ النزعة هو أنها تقوم على تمييز مجحف بين صنفين من أقوال و ظواهر اللغات الطبيعية :

أ ) أقوال مركزية تستجيب لمقتضيات المنطق .

ب) أقوال هامشية لا منطقية (14).

2 – مقاربة تتعـــارض مع ســــابقتها وتصدر عن تصـور يقوم على ملاحظة الظواهر اللغوية ثم البحث عن وصف ريــاضي منطقي يكون أكثر كفاية و ملائمة. و يرى أستاذنا أنها مشروع واعد ومهم، إلا أن المحذور فيه هو أنه لا يتأسس على أي نموذج منطقي موضوع سلفا (15).

3 – و مقاربة ثالثة تندغم فيها المقاربتان الأوليان، أي أنها تنطلق من نسق منطق ما، و بدل أن تختزل اللغـة إلى هذه النظرية أو تلك تتوسل عدة منهجية قوامها المقـــارنة و المقـــابلة بين الأنســــاق الرياضية المنطقية و الوقائع اللغوية كيما تكتشف منطق اللغة الخاص (16) ، وهي بنظر العزاوي اجتهاد أصيل في عمل اللغـوي ديكرو الموسوم ب : .la preuve et le dire الدليل و المقول.

ويتواشج مصطلح منطق اللغة، ويتعالق مع ما يدعى بالمنطق الطبيعي Logique naturelle الذي ليس سوى << نسق من العمليات الذهنية التي تمكن فاعلا / متكلما في سياق ما من اقتراح تمثيلاته على متكلَّمٍ له بواسطة الخطاب >> مثلما يقرر ذلك جان بليز غريز (17).

ويقــودنا هــذا النقــاش حتما و ثــانية إلى العلاقة بين اللغـات الطبيعية، واللغات الاصطناعية و يلخصها موقفان اثنان هما :

1 – الموقـــف الأول يمثله غريز و ديكرو و العـــزاوي و ينهض على أن اللغـــات الطبيعية مباينة و مفارقة مخــــالفة للغـــات الاصطنـــاعية؛ إذ الأولــى ملتبسة يكتنفها المجاز والاستعارة وتتسم بالتعارض و التناقض و الإضمار و التعدد الدلالي … كما أنها تقوم على مسلمة الحوار و المركب الثقافي القبلي.

ورغم هذا لا يرى أستاذنا ضيرا في استعمـــال عبــارة << اللغات أنساق منطقية >> إذ هي كذلك بمعنى من المعـــاني و بضرب من التــأول، وإذا لم يكن المـــراد بها أن اللغــات الطبيعية مضارعة لأنساق المنطق الريـــاضي الحديث، فــالبون بين الاثنين كبير و شاسع بالنظر إلى طبيعة ووظيفة ومجال و آليات اشتغال كل منهـــما(18) . وبعد فالخطــاب الطبيعي ليس خطــابا برهانيا، إذ لايحترم مبادئ الاستنتاج المنطقي أو البرهنة الرياضية التي تتأسس على مقدمات توصل إلى نتائج حتمية وضرورية (19).

2 – الموقف الثاني : و يمثله ريشار مونتغيو، وبخاصة في كتابه الفلسفة الصورية، و مفاده أنه ليس ثمـــة فرق أو اختلاف نظري معتبر بين هذين النمطين من اللغات .

أمـــا مصطلح منطق اللغة الذي هو نفسه الحجاج في اللغة، فيقترح العزاوي تعريفه بقوله << إن منطـق اللغة هو القواعد الداخلية للخطاب التي تحكم تسلسله و تناميه و تحكم توالي الأقوال و تتاليها >> (20) .

وهو التعريف نفسه الذي أقترح لمصطلح التداولية المدمجة (21)، وهو بعد تعريف غير بعيد عن حد الخطابة لدى أرسطو (22).

وعموما فنظرية الحجاج في اللغة لتي ينطلق منها الباحث في أعماله و تطبيقاته تتجاوز، و تقفز علــى الوظـائف التي اقترحها جاكوبسون و اللسانيون للغات الطبيعية، و تقرر وظيفة أخرى جديدة قديمة قدم اللغة، فهـي لصيقة بها و تحملــها بصفة ذاتية و جــوهرية ألا و هي الوظيفة الحجاجية التي تهيمن على ما عداها وتشكل عنصرا بؤريا ضمن وظائف اللغة.

ويصف العزاوي الحجاج بصفات تجعله مفارقا لانساق المنطق هي أنه : نسبي ، و مرن ، و تدرجـي ، وذو طبيعة سيـــاقية (23). ويتصادى هذا مع مـا ينبزه الباحث معجب الزهراني ب الحوارية التي تتأسس هي الأخرى على نسبية المعاني و كثرة الحقائق (24).

المطلب الثاني: الحجاج في اللغة

لقد سبق أن أشرنا إلى أن الباحث العزاوي ينطلق و يرتكز في أبحـــاثه من وعلى نظرية الحجـــاج في اللغة باعتبارها نظرية حديثة تسعف في تقديم تصور جديد للمعنى ؛ للبحث عنه و بنائه .

وقد وضع الباحث هدفين رئيسيين لكتابه اللغة والحجاج هما :

1 – تأكيد فرضية الطبيعة الحجاجية للغة الطبيعية

2 – إبراز بعض الجوانب الحجاجية للغة العربية في مستويات عديدة.

وعمـــوما فـــالكتاب يقع في مائة و ستين صفحة من القطـــع المتــوسط، شغلتها أربعة فصول و مقدمة وخاتمة. أما الفصل الأول فتناول الحجاج اللغـــوي و الـــدلاليات لحجـــاجية، وعـــرض فيه الكـاتب بالدرس و التحليل لمفاهيم عمد ، من قبيل : الحجـــاج، و الحجة، و السلــم الحجـــاجي و قوانينه و الروابط والعوامـل الحجاجية ومــا تضطلع به من أدوار وازنة في توجيه المعنى و تحقيق التــأثير الذي يظـــل عمـــوما قصــــد المتكـــلمين (25)، الشيء الذي يستتبع حمل المتلقي بطريق القهر النظري على تقبل الرأي المخالف بعد إبطال حججه و ثنيه عن رأيه (26)، فالجهد المبـــذول في الحجــاج ذو بعد إقناعي إفحامي حواري (27)، ينهض على مبادئ ذات طابع تداولي (28).

كما ناقش الباحث في الفصـــل نفسه الحجاجيـــات الضـــعيفة، و الحجج القوية و الواهية و الأوهى، و خلص بعد أن ضرب أمثلة من اللغـة العربيـة و الفرنسية إلى أن المكون الحجاجي أساسي في المعنى و هو الذي يحكم اشتغال الأقوال داخل الخطاب، وأن المكون الإخباري ثانوي و هامشي (29) .

وفي الفصل الثــاني درس المؤلف بعض الروابط مثل الرابط << بل >>، و << لكن >>، و << حتى >> ، وقـــارب معانيها و دلالاتها البلاغية و النحوية كالإضراب و الاستدراك، و الغــاية ، وبيــن أن هذه الأخيرة وثيقـــة الصلة بمـــا يدعى في الدراسات الحجاجية بالسلم الحجاجي (30)، الذي تظل فيه الحجج التي تأتي بعد الرابط أقوى من التي ترد قبله. وهذه الروابط وما تستصحبه من صيغ شرطية أحيانا تفتح آفاقا كبرى للدلالة الاحتمالية (31).

وأفرد الباحث الفصل الثالث من كتابه للحديث عن الاستعارة و دورها في الخطابات الحجاجية منطلقــا من مقـــال ميشال لوغرن الموسوم ب الاستعارة و الحجاج، وبين أن القول الاستعاري له قوة حجاجية عالية جدا (32)، فقولنا مثلا : زيد أسد أقوى حجاجيا من قولنا : زيد شجاع. حتى أن التشابيه البليغة وما تفرع عنهـا من استعارات تصريحية أو مكنية، و المجازات تجعل منجزها << يسود و يسيطر >> مثلما يقول بارث.

ولم يجـــانب حازم القرطــاجني الصواب إذ يركز على الوظيفة التأثيرية للعمل الأدبي التي تتغيا غرز قيمة

في المتلقي أو إقناعه بقضية أو حمله على اتخاذ موقف (33).

وقوة الكلمات أو اللغة بين الانجاز و الحجاج دعا العزاوي الفصل الرابع من كتابه، و تطرق فيه إلى أن النمـــاذج اللسانية الأولى مع سوسير كانت تقصر وظيفة اللغة الأســـاس على الإخبار و تعتبره الفعل اللغوي الرئيسي (34)، ووجهة النظر هذه واجهت انتقادات كثيرة من قبل مدرسة أوكسفورد ومن الفلاسفة ستراوســن و أوستين الذي يتجـــاوز الـــوظيفة التواصلية التخاطبية للغة إلى الــوظيفة التأثيرية الحجاجية (35)، و سورل و غيرهم.

المطلب الثالث: الحجاج في الخطاب

يعتبر كتاب الباحث << الخطاب و الحجاج >> لبنة أساسية في الدراسات الحجـــاجية وإضــافة نوعية انتقلت من حجاجيات الجملة أو النص إلى حجاجيات الخطاب بما هو المجال الرحب للحجاج (36) و بوصــفه المحضن الأساس الذي تتجلى فيه بشكل أكبر طرائق اشتغاله ووجوه استعماله (37).

وقد اختار المـــؤلف لبحثه ” الخطــاب و الحجـــاج ” غاية عليا و هي كما أعلن عنها في مقدمة الفصل الأول السعـــي إلى تطــوير النظرية الحجـــاجية و توسيـــع مجـال تطبيقها ليشمل مختلف النصوص الدينية و الأدبيــة و السيــاسية والتاريخية والصحفية الإشهـارية (38)، وهذا صعب ركبه المؤلف دونه صعاب جمة، لكنه سعى وسعيه معتبر ومقدر ،وقد جعل الباحث << الخطاب و الحجاج >> فصولا أربعة لأربع خطابـات؛ هي الخطاب القرآني و الخطاب الشعري و الخطاب المثلي، و الخطاب الإشهاري، تصدرتها مقدمة، ذهـــب فيــــها إلى أن كل الخطابات المنجزة بواسطة اللغة الطبيعية حجاجية (39)، وهذا ينسجم ويتساوق مع المقولة المفتاح التي يصدر عنها المؤلف و مفادها أن اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية (40).

ويجمل بنا أن نومئ إلى أن الباحث استطاع أن يعبر من مستوى التنظير ومحاولة استنبات نظـــــرية الحجـــاج في اللغة الأوزوالدية في اللغة العــربية إلى المستوى التطبيقي العملي الذي يشتغل على نماذج من الخطابات و النصوص.

ففي الفصل الأول اشتغل المؤلف على سورة الأعلى بعد أن جعلها مقاطع يأخذ بعضها برقاب بعـــض و يُسْلم المتقدم منـــها إلى التالي، فتم له التحليل و التفكيـــك الحجاجيان، وكان أن انتهى إلى أن السورة تقوم وتستبطن بنية منطقية واضحة و برنامجا حجاجيا محددا (41).

ونشير إلى أن المؤلف كان يتأرجح و يتقلب خلال بحثه الرصين بين منزلتي تواضع البلاغة و بلاغة التـــواضع بخاصة التي ما انفك يلمح إليها؛ فهو ” يحاول ” فقط طرح بعض الأسئلة الجديدة (42) ثم إنه ” لا يدعي ” الإحاطة بكل المظاهر الحجاجية للنص الأدبي (43).

أما الفصل الثاني فخصصه أستاذنا للخطاب الشعري، و انتخب له قصيدة ” العـــلة ” للشـــاعر العراقي المفلق أحمد مطر. وفي مطلب الحجاج و الشعر اختار العزاوي أن يرد على الفيلسوف الأمريكي ومن خلاله على جميع الذين يقيمون تعارضا بين الحجاج و الشعـــر متعللين بأن الشعر يتأسس على الفردي و الحجـــاج la banalité متأسس على الابتذال

وما هو جمعي مشترك (44).

يقول أستاذنا : ” ونحن وان كنا نشـــاطره جزءا من موقفه ورأيه في الحجــــاج و المتمثل في كون هذا الأخير يقوم على الابتـذال (…) فإننا نرى أن ذلك ينطبق على الشعر هو الآخر،كما أن الرؤية الفردية نجدها في هذا وذاك (45)، وبين مظـــاهر الطابع الحجــــاجي للشعر وأنه يهدف إلى الحث و التحريض و تغيير أفكار المتلقي و معتقداته (46).

و يستهل الباحث تحليله الحجاجي لقصيدة العلة بسبر أغوار عتبتها الأولى [ أي العنوان ] واستكنــــاه حقيقة ما تتيحه من تأويلات و احتمالات، رجح منها معنيين اثنين :

العلة = السبب.

العلة = المرض.

ترجيحا يتفق ويتمــاشى ومقـــاطع القصيدة التي تحكمـــها ثنائية السبب و المرض، و يقوم هذا العنوان حجة لصالح نتيجة هي أنه : ينبغي” إيجاد” علاج للمرض ” أو ” يجب إزالة الأسباب لتزول المسببات ، والقصيدة بعد هذا ليست سوى تمطيط / نتيجة لعنوانـــها (47). وقد تـــوسل المؤلف آلية النحت فــــابتكر عدة مصطلحية تسعـــف الــــدارسين وترفد دراساتهم و تحاليلهم الحجاجية، لجميع أنواع الخطابات، من قبيل ؛ الإستراتيجية الخطابية، وتعالق الروابط، والبرنامج الحجاجي (48)، والعلاقة الحجاجية والربط والتعارض الحجاجيين (49).

وأردف أستاذنا الخطابين القرآني و الشعري، بالخطاب المثلي، وذهب إلى أن الأمثـــال عموما تتضمن مبادئ حجاجية عميقة وقوية ، وأن إيرادها في الخطاب و الاستشهاد بها يكون لغايات اقناعية استــدلالية (50) وفي سياق رده على الذين يعتبرون المثل حجة عادية ترتبط بسياق خاص يقرر أنه [ أي المثل ] يجب وألا يعتبر البتــة Argument d’autorité أن يعتبر حجة جاهزة، صناعية وأن يوضع ضمن حجة السلطة

حجة خاصة وعادية (51).

وارتاد الباحث آفاق الصورة و الأيقـــونات في الخطاب الإشهـــاري وهو رابع الفصول، وصدره بمقدمة ألمح فيــها إلى أن للصورة أنماط مختلفة باختلاف المباحث المعرفية الصادرة عنها؛ فهناك الصورة النحوية، والبلاغية و المنطقية و الذهنية و السينمــائية، والإشهــارية ، وخطـاب الصورلوجيا القائم على ثنائية صورة الأنا و الغير.

وبين بعد هذا أن الصــورة تحتل حيزا مهـــما في المجالات التداولية للأفراد و تكويناتهم، إذ تحيل على جوانـب جمالية و تربوية و لغويـة و نفسية و فلسفية وحضارية (52)، فالصورة من وجهة النظر هذه لفظ عام يمت بصـلات إلى حقول معرفية عديدة. وبانبراء الباحث للخطاب الإشهاري المرتكز على الصورة يكون قد أبـدع و نقض التصور العام و الشائع الذي لا يستحضر الحجاج إلا باعتباره نشاط خطابي لغوي (53)، وتغدو الأيقـــونات (الأشياء، الألوان ..) حججا في الخطاب البصري الشيء الذي يستتبع أن تكون النتائج من النمط نفسه، أي أيقونات (54).

وبخصوص هذا الفصل نعتب على أستاذنا أنه لم يرفق المتون والخطابات اللغـــوية الإشهارية بمتونها الأيقونية أي الصور المصاحبة لها حتى تكتمل الصورة الذهنية لدى القارئ .

خــــاتمة :

ننتهي مما تقدم إلى جملة أمور نوردها كالآتي:

– إن الباحث” أبو بكر العزاوي” يرفض أن تكون للغة بنية منطقية ويلح على منطقها الداخلي الخاص.

– انه يعتبر الحجاج في اللغة منطقا طبيعيا يسعف في مقاربة و تحليل خطابات و نصوص مختلفة.

– إن اللسان البشري الطبيعي ذو وظيفة حجاجية .

– انه استطــــاع أن ينتقــــل من حجــــاجيات الأقوال و الجمل إلى حجاجيات أوسع هي حجاجيات النصوص و الخطابات المختلفة.

– إن المكون اللغوي يرفد نظيره الأيقوني البصري و يتكاملان لخلق حجاجية عالية وقوية.

 

الهـــوامش:

(*) ورقة ألقيت في النـــدوة الوطنية: << الحجــاج من اللغـة إلى الخطاب : قراءة في أعمال الدكتور أبو بكر العزاوي >> التي نظمتها الجمعية المغربية لتكامل العلوم / البيضاء بشراكة مع مؤسسة المـلك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية و العلوم الإنسانية البيضاء، مارس 2010 .

(**) باحث في الأديان وفي الحجاج في اللغة والخطاب ، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب.

(1) ابن منظور ، لسان العرب، مج.2 ، دار صادر ، بيروت ، [ط.1] ، 1997 ، ص.27

(2) للمزيد من التفصيل في مسألة محاقلة الحجاج لهذه المفردات عد إلى : طه، عبد الرحمـان، الإضمـــار في الدليل، مجلة المناظرة، [ع.3] ، ص.91 ، 105 ، ولمعرفة حدود : الاستدلال ينظر : كروم، أحمد ، الاستدلال في معاني الحروف: دراسة في اللغة و الأصول، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، [ط.1]، دجنبر 1421ه/2000م ، ص.49 ، وبشأن الجدل ينظر : كتاب الإيضاح لقوانين الاصطلاح في الجدل و المناظرة، الصاحب محيي الدين يوسف بن عبد الرحمان بن الجوزي، تحقيق محمود بن محمد السيد الدغيم، مكتبة مدبولي، القاهرة، [ط.1] ، 1415ه/ 1995م ، الصفحات ، 66 ، 67 ، 100 ، وينظر أيضا : طه ن عبد الرحمان ، تجديد المنهج في تقويم التراث ، المركز الثقافي العربي ، البيضاء ، [ط.2] ، 2005م ، ص.185 ، و : العزاوي أبو بكر، الحوار ، الحجاج ، تدبير الاختلاف و التربية على حقوق الإنسان، حوار أجراه معه بوشعيب الزين ، عالم التربية ، [ع.15] ، الجديدة ص.180 .

(3) الزبيدي، مرتضى ، تاج العروس ، فصل الحاء المهملة مع الجيم .

(4) الأصفهاني ، الراغب ، المفردات في غريب القرآن ، ضبطه و راجعه محمد خليل عيتاني ، دار المعرفة، بيروت ، [ط.1] ، 1418ه/1998م ، ص.115 .

(5) أعراب ، حبيب ، الحجاج و الاستدلال الحجاجي : << عناصر استقصاء نظري >> ، عالم الفكر ، [ع.1] ، المجلد 30 ، يوليوز سبتمبر 2001م ، ص.97، 98 .

Van Emeren, R.Grooten dorst and T. Krninger: The study of argumentation (6)

نقلا عن : حمو ، النقاري ، في فلسفة المنطق ؛ من منطق << القضية >> إلى منطق << القول >> ، مجلة المناهل ، منشورات وزارة الثقافة المغربية ، السنة 30 ، [ع.84] ، فبراير 2008م ، ص.233 .

(7) طه عبد الرحمان ، التواصل و الحجاج ، سلسلة الدروس الافتتاحية ن الدرس العاشر 1993م / 1994م، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، [د.ط] ، ص.5 .

(8) طه ، عبد الرحمان ، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ، المركز الثقافي العربي ، البيضاء ، المغرب، [ط.3] ، 2007م ، ص.65 .

(9) الإيضاح ، مذكور ، ص.59 .

(10) نفسه ، ص.101 ، أنظر أيضا: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص.93 ، و الاستدلال في معاني الحروف ، ص.184 .

(11) هنريش ، بليث ، البلاغة و الأسلوبية : نحو نموذج سيميائي لتحليل النص ، ترجمة وتقديم ، وتعليق الدكتور محمد العمري ، منشورات سال ، البيضاء ، [ط.1] ، 1989م ، ص.17 .

(12) الراضي ن رشيد ، السفسطات في المنطقيات المعاصرة : التوجه التداولي الجدلي نموذجا ، عالم الفكر، [ع.4] ، المجلد 36 ، أبريل / يونيو 2008م ، ص.127.

(13) من المنطق إلى الحجاج ، حوار أجراه مع د.أبو بكر العزاوي حافيظ اسماعيلي علوي ، فكر ونقد، [ع.61] ن السنة السابعة ، شتنبر 2004م ، ص.33 .

(14) نفسه ، ص.34 .

(15) نفسه ، ص.34 .

(16) منطق اللغة هو مصطلح اقترحه أوزوالد ديكرو في سياق رده العاصف على الباحثين الذين كانوا يبحثون عن المنطق المجرد في اللغة.

(17) من المنطق إلى الحجاج، مذكور، ص.37 .

(18) نفسه ص.35 ، 36 .

(19) نفسه ، ص.39 ، فمجال الخطاب الطبيعي هو المحتمل المتوقع وغير المؤكد ، أما مجال اللغات الاصطناعية فهو البرهنة القائمة على قواعد الاستلزام و القياس المنطقيين الدقيقين . وللمزيد من التفصيل أنظر للمؤلف نفسه : اللغة والحجاج ، ص.15 و أنظر : أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم ، حمادي صمود ، هشام الريفي ، عبد الله صولة …و[آخرون] ، إشراف حمادي صمود ، منوبة ، جامعة الآداب و الفنون و العلوم الإنسانية ، 1997م ، ص.300 .

(20) من المنطق إلى الحجاج ، مذكور ، ص.34 ، و اللغة و الحجاج ، ص.138 .

(21) نظرية الحجاج في اللغة ، شكري المبخوت ، ضمن : أهم نظريات الحجاج ، مذكور ، ص.352 .

(22) الراضي ، رشيد ، مذكور ، ص.129 .

(23) اللغة والحجاج ، مذكور ، ص.129 .

(24) الزهراني ، معجب ن الخطاب الحواري في فصل المقال ، كتاب الرافد ، [ع.2] ، دار الثقافة و الإعلام، حكومة الشارقة ، [د.ط] ، فبراير 2010 ، ص.15 ، 16 .

(25) اللغة والحجاج ، مذكور ، ص.8 ، 14 .

(26) هاني ، إدريس ، الأسلوب الحجاجي السائغ في الخطابي الميثمي الجامع ، كتاب النجاة للشيخ كمال الدين ميثم البحراني .. نموذجا ، قراءة تركيبية في مبحث الغيبة ، المحجة ، [ع.17] ، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية و الفلسفية ، صيف 2008م / 1429ه ن ص.149 .

(27) أنظر : محمد سالم ولد محمد الأمين ، مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة ، عالم الفكر ، المجلد 28 ، [ع.3] ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب ، الكويت ، يناير / مارس 2000م ، ص.56 ، و : أعراب ، حبيب ، ص.99 ، 103 ، 117 ، و: عبد الله صولة ، مذكور ، ص.299 .

(28) اللغة والحجاج ، ص.33 .

(29) نفسه ، ص.42 ، 44 .

(30) للمزيد من التفصيل حول هذا المفهوم عد إلى : طه ، عبد الرحمان ، اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي ، البيضاء ، [ط.2] ، 2006م ، ص.277 .

(31) الزهراني ، معجب ، مذكور ، ص.36 ، 58.

(32) اللغة و الحجاج ، ص.102 ، 103 .

(33) أديوان ، محمد ، الخطاب البلاغي عند حازم القرطاجني المشكل و الغاية ، فكر ونقد ، [ع.41]، السنة 5 ، سبتمبر 2001م ، ص.46.

(34) اللغة والحجاج ، ص.113.

(35) محمد سالم ولد محمد الأمين ، ص.58 .

(36) الخطاب و الحجاج ، ص.34 ، وأنظر أيضا : الولي ، محمد ، من بلاغة الحجاج إلى بلاغة المحسنات، فكر و نقد [ع.8]، السنة 1 ، أبريل 1998م ، ص.133 ، و أيضا : أعراب ، حبيب ، ص.112 .

(37) الخطاب و الحجاج ، ص.122.

(38) نفسه ، ص.15.

(39) نفسه ، ص.10.

(40) نفسه ، ص.9 ، وأنظر في أصول الحوار و تجديد علم الكلام ، مذكور ، ص.65.

(41) الخطاب و الحجاج ، ص.24.

(42) نفسه ، ص.11 ، 101.

(43) نفسه ، ص.33.

(44) نفسه ، ص.34.

(45) نفسه ، ص.34.

(46) نفسه ، ص.35.

(47) نفسه ، ص.39.

(48) نفسه ، ص.28 ،54 ، 56.

(49) نفسه ، ص.43 وما بعدها.

(50) نفسه ، ص.83.

(51) نفسه ، ص.92.

(52) نفسه ، ص.100.

(53) نفسه ، ص.103.

(54) نفسه ، ص.107.

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ عائشة
    عائشة

    شكرا على هده المعلومات التي أفادتني و ساعدتني على معرفة مفهوم نظرية الحجاج التي لها دور مهم في اللغة العربية و التي لها كدلك وظائف و خصائص و اليات و أنماط تميزها كما تتميز باقي النظريات

  2. الصورة الرمزية لـ ياسين سرايعية

    استفدنا من هذا العمل نتمنى لصاحبه المزيد.

اترك رد